فصل: (بَابُ التَّحْكِيمِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(فَصْلٌ آخِرُ) قَضَاءُ الْمَرْأَةِ:

(وَيَجُوزُ قَضَاءُ الْمَرْأَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) اعْتِبَارًا بِشَهَادَتِهَا.
وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ آخَرُ) قَضَاءُ الْمَرْأَةِ:
قولهُ: (وَيَجُوزُ قَضَاءُ الْمَرْأَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) وَقَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ نَاقِصَةُ الْعَقْلِ لَيْسَتْ أَهْلًا لِلْخُصُومَةِ مَعَ الرِّجَالِ فِي مَحَافِلِ الْخُصُومِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ) يَعْنِي وَجْهَ جَوَازِ قَضَائِهَا، وَهُوَ أَنَّ الْقَضَاءَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ كَالشَّهَادَةِ وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَتَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ.
وَقِيلَ هُوَ قولهُ قَبْلُ لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَخُصُّ وَجْهَ اسْتِثْنَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَجْعَلَ كُلًّا مِنْهُمَا، وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يَنْصِبْ الْخِلَافَ لِيَحْتَاجَ إلَى الْجَوَابِ عَنْ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا ذَكَرَ غَايَةُ مَا يُفِيدُ مَنْعُ أَنْ تَسْتَقْضِيَ وَعَدَمُ حِلِّهِ، وَالْكَلَامُ فِيمَا لَوْ وُلِّيَتْ وَأَثِمَ الْمُقَلِّدُ بِذَلِكَ أَوْ حَكَّمَهَا خَصْمَانِ فَقَضَتْ قَضَاءً مُوَافِقًا لِدِينِ اللَّهِ أَكَانَ يَنْفُذُ أَمْ لَا؟ لَمْ يَنْتَهِضُ الدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِهِ بَعْدَ مُوَافَقَتِهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَا أَنْ يَثْبُتَ شَرْعًا سَلْبَ أَهْلِيَّتِهَا، وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ سِوَى نُقْصَانِ عَقْلِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى حَدِّ سَلْبِ وِلَايَتِهَا بِالْكُلِّيَّةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَصْلُحُ شَاهِدَةً وَنَاظِرَةً فِي الْأَوْقَافِ وَوَصِيَّةً عَلَى الْيَتَامَى وَذَلِكَ النُّقْصَانُ بِالنِّسْبَةِ وَالْإِضَافَةِ، ثُمَّ هُوَ مَنْسُوبٌ إلَى الْجِنْسِ فَجَازَ فِي الْفَرْدِ خِلَافُهُ؛ أَلَا تَرَى إلَى تَصْرِيحِهِمْ بِصِدْقِ قولنَا: الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنْ الْمَرْأَةِ مَعَ جَوَازِ كَوْنِ بَعْضِ أَفْرَادِ النِّسَاءِ خَيْرًا مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِ الرِّجَالِ، وَلِذَلِكَ النَّقْصِ الْغَرِيزِيِّ نَسَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ يُوَلِّيهِنَّ عَدَمَ الْفَلَاحِ، فَكَانَ الْحَدِيثُ مُتَعَرِّضًا لِلْمُوَلِّينَ وَلَهُنَّ بِنَقْصِ الْحَالِ، وَهَذَا حَقٌّ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِيمَا لَوْ وُلِّيَتْ فَقَضَتْ بِالْحَقِّ لِمَاذَا يَبْطُلُ ذَلِكَ الْحَقُّ.

متن الهداية:
(وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى الْقَضَاءِ إلَّا أَنْ يُفَوَّضَ إلَيْهِ ذَلِكَ) لِأَنَّهُ قُلِّدَ الْقَضَاءَ دُونَ التَّقْلِيدِ بِهِ فَصَارَ كَتَوْكِيلِ الْوَكِيلِ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ حَيْثُ يَسْتَخْلِفُ لِأَنَّهُ عَلَى شَرَفِ الْفَوَاتِ لِتَوَقُّتِهِ فَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ إذْنًا بِالِاسْتِخْلَافِ دَلَالَةً وَلَا كَذَلِكَ الْقَضَاءُ.
وَلَوْ قَضَى الثَّانِي بِمَحْضَرٍ مِنْ الْأَوَّلِ أَوْ قَضَى الثَّانِي فَأَجَازَ الْأَوَّلُ جَازَ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ حَضَرَهُ رَأْيُ الْأَوَّلِ وَهُوَ الشَّرْطُ، وَإِذَا فُوِّضَ إلَيْهِ يَمْلِكُهُ فَيَصِيرُ الثَّانِي نَائِبًا عَنْ الْأَصِيلِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْأَوَّلُ عَزْلَهُ إلَّا إذَا فُوِّضَ إلَيْهِ الْعَزْلَ هُوَ الصَّحِيحُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى الْقَضَاءِ) فِي صِحَّةٍ وَلَا مَرَضٍ (إلَّا أَنْ يُفَوَّضَ ذَلِكَ إلَيْهِ) فَيَمْلِكَهُ كَمَا أَنَّهُ إذَا صَرَّحَ فِيهِ بِالْمَنْعِ يَمْتَنِعُ مِنْهُ وَهَذَا (لِأَنَّهُ قُلِّدَ الْقَضَاءَ دُونَ التَّقْلِيدِ بِهِ فَصَارَ كَالْوَكِيلِ) لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ (بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ حَيْثُ) جَازَ لَهُ أَنْ (يَسْتَخْلِفَ) لِأَنَّهُ لِتَوَقُّتِهِ بِحَيْثُ لَوْ عَرَضَ فِي وَقْتِهِ مَا يَمْنَعُهُ كَانَ لَا إلَى خُلْفٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ غَرَضٌ لِلْأَعْرَاضِ فَكَانَ الْمُوَلَّى لَهُ آذِنًا فِي اسْتِخْلَافِهِ دَلَالَةً بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَخْلِفُ سَمِعَ الْخُطْبَةَ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ سَمِعَهَا فَلَا لِأَنَّهَا مِنْ شَرَائِطِ افْتِتَاحِ الْجُمُعَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَاسْتَخْلَفَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ حَيْثُ يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ هُنَاكَ بَانٍ وَلَيْسَ بِمُفْتَتِحٍ، وَالْخُطْبَةُ شَرْطُ الِافْتِتَاحِ وَقَدْ وُجِدَ فِي حَقِّ الْأَصْلِ، وَلِذَا لَوْ أَفْسَدَهَا هَذَا الْخَلِيفَةُ وَاسْتَفْتَحَ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ لِأَنَّ شُرُوعَهُ فِيهَا صَحِيحٌ، وَبِهَذَا الشُّرُوعِ الْتَحَقَ بِمَنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ حُكْمًا، وَبِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعِيرَ بِشَرْطِهِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْمَنَافِعَ لِنَفْسِهِ فَكَانَ لَهُ تَمْلِيكُهَا، بِخِلَافِ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ فَإِنَّمَا هِيَ إذْنٌ فِي أَنْ يَعْمَلَ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا مَا قَالُوا: مَنْ قَامَ مَقَامَ غَيْرِهِ لِغَيْرِهِ لَا يَكُونُ لَهُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مُقَامَ نَفْسِهِ، وَمَنْ قَامَ مَقَامَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ كَانَ لَهُ، وَبِخِلَافِ الْوَصِيِّ يَمْلِكُ الْإِيصَاءَ وَالتَّوْكِيلَ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ أَيْضًا لِأَنَّ ثُبُوتَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَرُبَّمَا يَعْجِزُ الْوَصِيُّ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ وَالْمُوصِي قَدْ مَاتَ فَلَا يُمْكِنُ رَجْعُهُ إلَى رَأْيِهِ فَتَضَمَّنَ الْإِيصَاءُ الْإِذْنَ بِالِاسْتِخْلَافِ.
وَقولهُ (وَلَوْ قَضَى الثَّانِي بِمَحْضَرٍ مِنْ الْأَوَّلِ أَوْ قَضَى) بِغَيْبَتِهِ فَبَلَغَهُ (فَأَجَازَ جَازَ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ) إذَا وَكَّلَ الْوَكِيلُ غَيْرَهُ فَتَصَرَّفَ بِحَضْرَتِهِ أَوْ بِغَيْبَتِهِ فَأَجَازَهُ نَفَذَ (لِأَنَّهُ حَضَرَهُ رَأْيُ الْأَوَّلِ وَهُوَ الشَّرْطُ) فَإِنَّهُ الْمَقْصُودُ بِتَوْكِيلِهِ، وَتَحْقِيقُ حَالِهِ أَنَّهُ فُضُولِيٌّ ابْتِدَاءً وَكِيلٌ انْتِهَاءً، وَلَا يَمْتَنِعُ إذْ قَدْ يَجُوزُ فِي الِانْتِهَاءِ وَالْبَقَاءِ مَا لَا يَجُوزُ فِي الِابْتِدَاءِ خُصُوصًا وَقَدْ فُرِضَ زَوَالُ الْمَانِعِ مِنْ الصِّحَّةِ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْ هُوَ كَوْنُهُ لَيْسَ مِمَّا حَضَرَهُ رَأْيُهُ (وَإِذَا فُوِّضَ إلَيْهِ) الِاسْتِخْلَافُ (يَمْلِكُهُ فَيَصِيرُ الثَّانِي نَائِبًا عَنْ الْأَصِيلِ) يَعْنِي السُّلْطَانَ (حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْأَوَّلُ عَزْلَهُ) إلَّا إذَا كَانَ الْمُقَلِّدُ قَالَ لَهُ وَلِّ مَنْ شِئْت وَاسْتَبْدِلْ مَنْ شِئْت فَحِينَئِذٍ يَمْلِكُ عَزْلَهُ، أَوْ قَالَ جَعَلْتُك قَاضِي الْقُضَاةِ فَإِنَّ قَاضِيَ الْقُضَاةِ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ مُطْلَقًا تَقْلِيدًا وَعَزْلًا، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي حُكْمُ حَاكِمٍ أَمْضَاهُ إلَّا أَنْ يُخَالِفَ الْكِتَابَ أَوْ السُّنَّةَ أَوْ الْإِجْمَاعَ بِأَنْ يَكُونَ قولا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي ثُمَّ جَاءَ قَاضٍ آخَرُ يَرَى غَيْرَ ذَلِكَ أَمْضَاهُ).
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْقَضَاءَ مَتَى لَاقَى فَصْلًا مُجْتَهَدًا فِيهِ يُنْفِذُهُ وَلَا يَرُدُّهُ غَيْرُهُ، لِأَنَّ اجْتِهَادَ الثَّانِي كَاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ يُرَجَّحُ الْأَوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَلَا يُنْقَضُ بِمَا هُوَ دُونَهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي حُكْمُ حَاكِمٍ أَمْضَاهُ إلَّا أَنْ يُخَالِفَ الْكِتَابَ أَوْ السُّنَّةَ) الْمَشْهُورَةَ (أَوْ الْإِجْمَاعَ بِأَنْ يَكُونَ قولا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ) وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْقُدُورِيِّ: أَوْ يَكُونُ قولا إلَخْ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي ثُمَّ جَاءَ قَاضٍ آخَرُ يَرَى غَيْرَ ذَلِكَ أَمْضَاهُ) قَالُوا: إنَّمَا أَعَادَهُ لِأَنَّ فِي عِبَارَةِ الْجَامِعِ فَائِدَتَيْنِ لَيْسَتَا فِي الْقُدُورِيِّ: إحْدَاهُمَا تَقْيِيدُهُ بِالْفُقَهَاءِ، أَفَادَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْخِلَافِ لَا يَنْفُذُ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ.
وَالثَّانِيَةُ: التَّقْيِيدُ بِكَوْنِ الْقَاضِي يَرَى غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْقُدُورِيَّ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِهَذَا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ رَأْيُهُ فِي ذَلِكَ مُوَافِقًا لِحُكْمِ الْأَوَّلِ أَمْضَاهُ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهُ لَا يُمْضِيهِ، فَأَبَانَتْ رِوَايَةُ الْجَامِعِ أَنَّ الْإِمْضَاءَ عَامٌّ فِيمَا سِوَى الْمُسْتَثْنَيَاتِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِ أَوْ مُوَافِقًا: يَعْنِي بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي عِبَارَةِ الْجَامِعِ عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِالْخِلَافِ، وَإِنَّمَا مُفَادُهُ أَنَّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ عَالِمًا بِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ عَالِمًا، ثُمَّ جَاءَ قَاضٍ آخَرُ يَرَى خِلَافَ ذَلِكَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ هَذَا أَمْضَاهُ فَرُبَّمَا يُفِيدُ أَنَّ الثَّانِيَ عَالِمٌ بِالْخِلَافِ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمُنَفِّذُ وَالْكَلَامُ فِي الْقَاضِي الْأَوَّلِ الَّذِي يُنَفِّذُ هَذَا الْآخَرُ حُكْمَهُ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِالْخِلَافِ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الدَّلَالَةِ.
نَعَمْ فِي الْجَامِعِ التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّهُ يُنَفِّذُهُ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ رَأْيِهِ، وَكَلَامُ الْقُدُورِيِّ يُفِيدُهُ أَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا رُفِعَ إلَيْهِ حُكْمُ حَاكِمٍ أَمْضَاهُ وَهُوَ أَعَمُّ يَنْتَظِمُ مَا إذَا كَانَ مُوَافِقًا لِرَأْيِهِ أَوْ مُخَالِفًا، وَإِنَّمَا فِي الْجَامِعِ النُّصُوصِيَّةُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُخَالِفًا.
وَقولهُ إلَّا أَنْ يُخَالِفَ إلَخْ حَاصِلُهُ بَيَانُ شَرْطِ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ كَوْنُ الْمَحَلِّ مُجْتَهَدًا فِيهِ حَتَّى تَجُوزَ مُخَالَفَتُهُ أَوْ لَا، فَشَرْطُ حِلِّ الِاجْتِهَادِ أَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ: يَعْنِي الْمَشْهُورَةَ، مِثْل: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَلَوْ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ لَا يَنْفُذُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ ذَكَرَهُ فِي أَقْضِيَةِ الْجَامِعِ، وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يَنْفُذُ مُطْلَقًا، ثُمَّ يُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمُجْمَعِ عَلَى مُرَادِهِ أَوْ مَا يَكُونُ مَدْلُولٌ لَفْظُهُ وَلَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ وَلَا تَأْوِيلُهُ بِدَلِيلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ.
فَالْأَوَّلُ مِثْل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الْآيَةَ، لَوْ قَضَى قَاضٍ بِحِلِّ أُمِّ امْرَأَتِهِ كَانَ بَاطِلًا لَا يَنْفُذُ.
وَالثَّانِي مِثْل: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وَلَا يَنْفُذُ الْحُكْمُ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا، وَهَذَا لَا يَنْضَبِطُ فَإِنَّ النَّصَّ قَدْ يَكُونُ مُؤَوَّلًا فَيَخْرُجُ عَنْ ظَاهِرِهِ، فَإِذَا مَنَعْنَاهُ يُجَابُ بِأَنَّهُ مُؤَوَّلٌ بِالْمَذْبُوحِ لِلْأَنْصَابِ أَيَّامَ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَقَعُ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ مُؤَوَّلٌ أَوْ لَيْسَ بِمُؤَوَّلٍ، فَلَا يَكُونُ حُكْمُ أَحَدِ الْمُتَنَاظِرِينَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَوَّلٍ قَاضِيًا عَلَى غَيْرِهِ بِمَنْعِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ.
نَعَمْ قَدْ يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الْقوليْنِ عَلَى الْآخَرِ بِثُبُوتِ دَلِيلِ التَّأْوِيلِ فَيَقَعُ الِاجْتِهَادُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ هَذَا الْقِسْمِ أَنَّهُ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ أَوْ لَا، وَلِذَا نَمْنَعُ نَحْنُ نَفَاذَ الْقَضَاءِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَيُجِيزُونَهُ وَبِالْعَكْسِ، وَلَقَدْ نُقِلَ الْخِلَافُ فِي الْحِلِّ عِنْدَنَا أَيْضًا وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ لَمْ يَحْكُوا الْخِلَافَ.
فَفِي الْخُلَاصَةِ فِي رَابِعِ جِنْسٍ مِنْ الْفَصْلِ الرَّابِعِ مِنْ أَدَبِ الْقَاضِي قَالَ: وَأَمَّا الْقَضَاءُ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا فَجَائِزٌ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ انْتَهَى.
وَأَمَّا عَدَمُ تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ بِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ عَلَى الْحُكْمِ أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ السَّمْعِيِّ أَوْ بِنَقْلِ عَدَمِ تَسْوِيغِ فُقَهَاءِ الْعَصْرِ اجْتِهَادَهُ، وَذَلِكَ مِثْلُ اجْتِهَادِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي جَوَازِ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ لَمْ يَقْبَلْهُ الصَّحَابَةُ مِنْهُ، فَلَوْ قَضَى بِهِ قَاضٍ لَا يَنْفُذُ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقولهِ وَفِيمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ لَا يُعْتَبَرُ مُخَالَفَةُ الْبَعْضِ، وَلَا يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بَلْ لَا يُعْتَبَرُ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ، وَلَمْ يُرِدْ بِالْبَعْضِ مَا دُونَ النِّصْفِ أَوْ مَا دُونَ الْكُلِّ بَلْ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ وَإِلَّا لَمْ يُعْتَبَرْ قَضَاءً فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ أَصْلًا، إذْ مَا مِنْ مَحَلِّ اجْتِهَادٍ إلَّا وَأَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ أَقَلُّ مِنْ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، إذْ لَا يُضْبَطُ تَسَاوِي الْفَرِيقَيْنِ وَلِذَا لَمْ يُمَثِّلُوهُ قَطُّ إلَّا بِخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ خِلَافُ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَالْمُرَادُ إذَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ عَلَى حُكْمٍ فَخَالَفَهُمْ وَاحِدٌ لَا يَصِيرُ الْمَحَلُّ بِذَلِكَ مَحَلَّ اجْتِهَادٍ حَتَّى لَا يَنْفُذَ الْقَضَاءُ بِقولهِ ذَلِكَ الْوَاحِدَ فِي مُقَابَلَةِ قول الْبَاقِينَ، ثُمَّ هَذَا أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِمْ سَوَّغُوا اجْتِهَادَهُ ذَلِكَ أَوْ لَا.
وَاَلَّذِي صَحَّحَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَاخْتَارَهُ أَنَّ الْوَاحِدَ الْمُخَالِفَ إنْ سَوَّغُوا لَهُ اجْتِهَادَهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يُسَوِّغُوا لَا يَصِيرُ الْمَحَلُّ مُجْتَهَدًا فِيهِ.
قَالَ: وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ لِأَنَّ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ خِلَافٌ لَا اخْتِلَافٌ.
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ: الْمُعْتَبَرُ الِاخْتِلَافُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ: يَعْنِي أَنْ يَكُونَ الْمَحَلُّ مَحَلَّ اجْتِهَادٍ يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ.
وَقَدْ يَحْتَمِلُ بَعْضُ الْعِبَارَاتِ ضَمَّ التَّابِعِينَ، وَعَلَيْهِ فَرَّعَ الْخَصَّافُ أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَنْقُضَ الْقَضَاءَ بِبَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ التَّابِعِينَ.
وَقَدْ حُكِيَ فِي هَذَا الْخِلَافِ عِنْدَنَا، فَقِيلَ هَذَا قول مُحَمَّدٍ، أَمَّا عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَيَجُوزُ قَضَاؤُهُ وَلَا يُفْسَخُ.
وَفِي النَّوَازِلِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ بِهِ، فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُتَأَخِّرَ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يُرْفَعُ: يَعْنِي اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي جَوَازِ بَيْعِهِنَّ، فَعَنْ عَلِيٍّ الْجَوَازُ وَعُمَرُ وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْعِهِ، ثُمَّ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِنَّ فَكَانَ قَضَاءُ الْقَاضِي بِهِ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَيُبْطِلُهُ الثَّانِي.
وَعِنْدَهُمَا لَمَّا لَمْ يُرْفَعْ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ وَقَعَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَلَا يَنْقُضُهُ الثَّانِي، وَلَكِنْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ فِي التَّقْوِيمِ: إنَّ مُحَمَّدًا رَوَى عَنْهُمْ جَمِيعًا أَنَّ الْقَضَاءَ بِبَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ لَا يَجُوزُ، فَقَدْ عَلِمْت مَا هُنَا مِنْ تَشَعُّبِ الِاخْتِلَافِ فِي الرِّوَايَةِ.
وَبِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْخِلَافِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فِي كَوْنِ الْمَحَلِّ اجْتِهَادِيًّا قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُبْطِلَ مَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي الْمَالِكِيُّ وَالشَّافِعِيُّ بِرَأْيِهِ: يَعْنِي إنَّمَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ قول مَالِكٍ أَوْ الشَّافِعِيِّ وَافَقَ قول بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوْ التَّابِعِينَ الْمُخْتَلِفِينَ فَلَا يُنْقَضُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُخْتَلِفٌ بَيْنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قول مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا قول الصَّدْرِ الْأَوَّلِ بَلْ الْخِلَافُ مُقْتَضَبٌ فِيهَا بَيْنَ الْإِمَامَيْنِ لِلْقَاضِي أَنْ يُبْطِلَهُ إذَا خَالَفَ رَأْيَهُ.
وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، فَإِنْ صَحَّ أَنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّ مُجْتَهِدُونَ فَلَا شَكَّ فِي كَوْنِ الْمَحَلِّ اجْتِهَادِيًّا وَإِلَّا فَلَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ أَهْلُ اجْتِهَادٍ وَرِفْعَةٍ، وَلَقَدْ نَرَى فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ جَعْلَ الْمَسْأَلَةِ اجْتِهَادِيَّةً، بِخِلَافٍ بَيْنَ الْمَشَايِخِ حَتَّى يَنْفُذَ الْقَضَاءُ بِأَحَدِ الْقوليْنِ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ إذَا لَمْ يُعْرَفْ الْخِلَافُ إلَّا بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ، يُؤَيِّدُهُ مَا فِي الذَّخِيرَةِ عَنْ الْحَلْوَانِيِّ أَنَّ الْأَبَ إذَا خَلَعَ الصَّغِيرَةَ عَلَى صَدَاقِهَا وَرَآهُ خَيْرًا لَهَا بِأَنْ كَانَتْ لَا تُحْسِنُ الْعِشْرَةَ مَعَ زَوْجِهَا فَإِنَّ عَلَى قول مَالِكٍ يَصِحُّ وَيَزُولُ الصَّدَاقُ عَنْ مِلْكِهَا وَيَبْرَأُ الزَّوْجُ عَنْهُ، فَإِذَا قَضَى بِهِ قَاضٍ نَفَذَ.
وَفِي حَيْضِ مِنْهَاجِ الشَّرِيعَةِ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ طَلَّقَهَا فَمَضَى عَلَيْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ لَمْ تَرَ دَمًا فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بَعْدَهُ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا قَضَى بِذَلِكَ قَاضٍ يَنْبَغِي أَنْ يُنَفِّذَ لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، إلَّا أَنَّهُ نُقِلَ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يَجِبُ حِفْظُهَا لِأَنَّهَا كَثِيرَةُ الْوُقُوعِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِكَوْنِ الْمَحَلِّ مُجْتَهَدًا فِيهِ اشْتِبَاهُ الدَّلِيلِ لَا حَقِيقَةُ الْخِلَافِ.
قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِإِبْطَالِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ نَفَذَ لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اشْتِبَاهِ الدَّلِيلِ إذْ اعْتِبَارُ الطَّلَاقِ بِسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ يَنْفِي حُكْمَهُ، وَكَذَا لَوْ قَضَى فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَ ذَلِكَ يُنَفِّذُهُ، وَلَيْسَ طَرِيقُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ كَوْنَهُ فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ، وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ أَنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ اشْتِبَاهِ الدَّلِيلِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، إذْ ظَاهِرُ قوله تعالى: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ شَهَادَتِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ مُطْلَقًا وَإِنْ وَرَدَتْ فِي الْمُدَايَنَةِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ قَاطِعٌ فِي إبْطَالِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ وَلَوْ قَضَى بِجَوَازِ نِكَاحٍ بِلَا شُهُودٍ نَفَذَ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَمَالِكٌ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ يَشْتَرِطَانِ الْإِعْلَانَ لَا الشُّهُودَ، وَقَدْ اُعْتُبِرَ خِلَافُهُمَا لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ اشْتِبَاهِ الدَّلِيلِ، إذْ اعْتِبَارُ النِّكَاحِ بِسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ يَقْتَضِي أَنْ لَا تُشْتَرَطَ الشَّهَادَةُ انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إذَا كَانَتْ مُعَارَضَةُ الْمَعْنَى لِلدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ النَّصَّ تُوجِبُ اشْتِبَاهَ الدَّلِيلِ فَيَصِيرُ الْمَحَلُّ مَحَلَّ اجْتِهَادٍ يَنْفُذُ الْقَضَاءُ فِيهِ، فَكُلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ أَوْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَوْ أَحَدِهِمْ مَحَلُّ اشْتِبَاهِ الدَّلِيلِ حِينَئِذٍ إذْ لَا يَخْلُو عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ نَقْضُهُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى كَوْنِهِ بَيْنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ مَوَاضِعَ نَصَّ فِيهَا أَهْلُ الْمَذْهَبِ بِعَيْنِهَا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْقِصَاصِ يَحْلِفُ الْمُدَّعِي أَنَّ فُلَانًا قَتَلَهُ وَهُنَاكَ لَوْثٌ مِنْ عَدَاوَةٍ ظَاهِرَةٍ كَقول مَالِكٍ لَا يَنْفُذُ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» مَعَ أَنَّ مَعَهُ ظَاهِرًا فِي حَدِيثِ مُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةَ نَذْكُرُهُ فِي الْقَسَامَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى رَبُّ الْعَالَمِينَ.
وَلَوْ قَضَى بِحِلِّ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الثَّانِي بِلَا دُخُولٍ كَقول سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ لَا يَنْفُذُ لِذَلِكَ أَيْضًا وَهُوَ حَدِيثُ الْعُسَيْلَةِ.
وَفِي السِّيَرِ مِنْ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: إذَا قَضَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَمْلِكُونَ مَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ، وَلَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ نَفَذَ.
وَفِي الْفُصُولِ نَقْلًا عَنْ فَتَاوَى رَشِيدِ الدِّينِ: الزَّوْجُ الثَّانِي إذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثَانِيًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَتَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِصِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ يَنْفُذُ لِأَنَّ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسَاغًا وَهُوَ صَرِيحٌ {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ زُفَرَ.
وَلَوْ قَضَى فِي الْمَأْذُونِ فِي نَوْعٍ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ فَقَطْ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَصِيرُ مُتَّفِقًا.
وَلَوْ قَضَى بِنِصْفِ الْجِهَازِ فِيمَنْ طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ قَبَضَتْ الْمَهْرَ فَتَجَهَّزَتْ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْجُمْهُورِ، وَيَنْفُذُ الْقَضَاءُ بِجَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ.
وَلَوْ قَضَى بِعَدَمِ جَوَازِ عَفْوِ الزَّوْجَةِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ بِنَاءً عَلَى قول الْبَعْضِ إنَّهُ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْقِصَاصِ لَا يَنْفُذُ.
وَلَوْ زَنَى بِأُمِّ امْرَأَتِهِ فَقَضَى بِإِقْرَارِ الْبِنْتِ مَعَهُ نَفَذَ.
وَحَكَى فِي الْفُصُولِ فِيمَا إذَا زَنَى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَ بِنْتَهَا فَقَضَى بِجَوَازِهِ خِلَافًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَنْفُذُ لِلنَّصِّ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ، وَبِصِحَّةِ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ يَنْفُذُ، وَيَنْفُذُ بِالْقُرْعَةِ فِي رَقِيقٍ أَعْتَقَ الْمَيِّتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ وَبِالشَّهَادَةِ لِأَبِيهِ، وَعَكْسُهُ يَنْفُذُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَلَا يَنْفُذُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَبِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيمَا دُونَ مُدَّةِ السَّفَرِ نَفَذَ وَبِشَهَادَةِ شُهُودٍ عَلَى وَصِيَّةٍ مَخْتُومَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْرَأَهَا عَلَيْهِمْ الْمَيِّتُ أَمْضَاهُ الْآخَرُ وَبِصِحَّةِ النِّكَاحِ الْمُوَقَّتِ بِأَيَّامٍ نَفَذَ وَلَوْ عَقَدَا مُوَقَّتًا بِلَفْظِ الْمُتْعَةِ، نَحْوُ مَتِّعِينِي بِنَفْسِك عَشَرَةَ أَيَّامٍ لَا يَنْفُذُ.
وَلَوْ قَضَى بِرَدِّ زَوْجَتِهِ بِالْعُيُوبِ مِنْ الْعَمَى وَالْجُنُونِ نَفَذَ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقول بِرَدِّهَا بِالْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ، وَكَذَا بِصِحَّةِ رَدِّ الزَّوْجَةِ لَهُ.
وَلَوْ قَضَى بِسُقُوطِ الْمَهْرِ بِالتَّقَادُمِ بِلَا إقْرَارٍ وَلَا بَيِّنَةٍ لَمْ يَنْفُذْ، وَكَذَا إذَا قَضَى أَنْ لَا يُؤَجَّلَ الْعِنِّينُ.
هَذَا فِي الْقَضَاءِ بِالْمُجْتَهَدِ فِيهِ.
أَمَّا إذَا كَانَ نَفْسُ الْقَضَاءِ مُجْتَهَدًا فِيهِ فَهَذِهِ فُرَيْعَاتٌ مِنْهُ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْخِلَافَ إذَا كَانَ فِي نَفْسِ الْقَضَاءِ وَالْوَاقِعُ تَوَقَّفَ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ فَإِنْ أَمْضَاهُ لَيْسَ لِلثَّالِثِ نَقْضُهُ لِأَنَّ قَضَاءَ الثَّانِي هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ: أَعْنِي قَضَاءَ الْأَوَّلِ.
وَعَلَيْهِ فَرْعٌ إذَا قَضَى بِالْحَجْرِ عَلَى الْمُفْسِدِ لِلْفَسَادِ لَا يَنْفُذُ لِتَحَقُّقِ الْخِلَافِ فِي الْقَضَاءِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ، وَقِيلَ أَنْ يُمْضِيَ الثَّانِي نَقْضَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ قَضَاءً فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ، وَكَذَا لَوْ قَضَى لِامْرَأَتِهِ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ فَالْقَاضِي الثَّانِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُجِيزَهُ أَوْ يَرُدَّهُ لِأَنَّ الْخِلَافَ وَقَعَ فِي نَفْسِ الْقَضَاءِ، وَمِنْهُ مَا لَوْ قَضَى الْمَحْدُودُ أَوْ الْأَعْمَى.
وَأَمَّا قَضَاءُ السُّلْطَانِ فِي أَمْرٍ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَنْفُذُ، وَقِيلَ لَا يَنْفُذُ.
فَعَلَى الْقول بِأَنَّهُ لَا يَنْفُذُ يَحْتَاجُ فِي نَفَاذِهِ إلَى أَنْ يُنْفِذَهُ قَاضٍ آخَرُ.
وَقِيلَ فِي مَسْأَلَةِ الْحَجْرِ فِي صِحَّةِ نَقْضِ الثَّانِي إنَّ قَضَاءَ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِقَضَاءٍ لِعَدَمِ الْمَقْضِيِّ لَهُ وَعَلَيْهِ نَفَذَ قَضَاءُ الثَّانِي بِإِطْلَاقِهِ عَنْ الْحَجْرِ.
قولهُ: (وَالْأَصْلُ) حَاصِلُهُ تَوْجِيهُ أَنَّ الْقَاضِيَ الثَّانِيَ يُنَفِّذُ خِلَافَ رَأْيِهِ فِي الْمَرْفُوعِ إلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ اجْتِهَادَ الثَّانِي فِي الْبُطْلَانِ كَاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ فِي الصِّحَّةِ مَثَلًا فَتَعَارَضَ اجْتِهَادَاهُمَا وَتَرَجَّحَ الْأَوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَلَا يَنْقُضُهُ الثَّانِي بِاجْتِهَادٍ هُوَ دُونَهُ.

متن الهداية:
(وَلَوْ قَضَى فِي الْمُجْتَهَدِ فِيهِ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِ نَاسِيًا لِمَذْهَبِهِ نَفَذَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَإِنْ كَانَ عَامِدًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ) وَوَجْهُ النَّفَاذِ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَطَأٍ بِيَقِينٍ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَنْفُذُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَا هُوَ خَطَأٌ عِنْدَهُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، ثُمَّ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ أَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِمَا ذَكَرْنَا.
وَالْمُرَادُ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ مِنْهَا وَفِيمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ لَا يُعْتَبَرُ مُخَالَفَةُ الْبَعْضِ وَذَلِكَ خِلَافٌ وَلَيْسَ بِاخْتِلَافٍ وَالْمُعْتَبَرُ الِاخْتِلَافُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ قَضَى فِي الْمُجْتَهَدِ فِيهِ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِ نَاسِيًا لِمَذْهَبِهِ نَفَذَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) رِوَايَةً وَاحِدَةً (وَإِنْ كَانَ عَامِدًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ) عَنْهُ (وَوَجْهُ النَّفَاذِ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَطَأٍ بِيَقِينٍ) لِأَنَّ رَأْيَهُ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُ الصَّوَابَ، وَرَأْيُ غَيْرِهِ يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُ خَطَأَهُ فَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا خَطَأً بِيَقِينٍ، فَكَانَ حَاصِلُهُ قَضَاءً فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ.
وَوَجْهُ عَدَمِ النَّفَاذِ أَنَّ قَضَاءَهُ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ غَيْرُ حَقٍّ عَبَثٌ فَلَا يُعْتَبَرُ كَمَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَوَقَعَ تَحَرِّيهِ إلَى جِهَةٍ فَصَلَّى إلَى غَيْرِهَا لَا يَصِحُّ لِاعْتِقَادِهِ خَطَأَ نَفْسِهِ، فَكَذَا هَذَا، وَبِهِ أَخَذَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْأُوزْجَنْدِيُّ.
وَبِالْأَوَّلِ أَخَذَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَفَرَّعَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْقُضَاةُ مِنْ الْإِرْسَالِ إلَى الشَّافِعِيِّ لِيَحْكُمَ بِبُطْلَانِ الْيَمِينِ الْمُضَافَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِشَرْطِ كَوْنِ الْقَاضِي الْمُرْسَلِ يَرَى بُطْلَانَهُ كَالشَّافِعِيِّ وَإِلَّا كَانَ مُقَلِّدًا لِغَيْرِهِ لِيَفْعَلَ مَا هُوَ الْبَاطِلُ عِنْدَهُ وَهُوَ بَاطِلٌ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ: هَذَا خِلَافُ مَا عَلَيْهِ السَّلَفِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَقَلَّدُونَ الْقَضَاءَ مِنْ الْخُلَفَاءِ وَيَرَوْنَ مَا يَحْكُمُونَ بِهِ نَافِذًا وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِرَأْيِ الْخُلَفَاءِ انْتَهَى.
وَأَوْكَدُ الْأُمُورِ فِي هَذَا حُكْمُ شُرَيْحٍ بِمَا يُخَالِفُ رَأْيَ عَلِيٍّ كَثِيرًا وَهُوَ يَعْلَمُ وَيُوَافِقُهُ كَمَا عَلِمَ فِي رَدِّهِ شَهَادَةَ الْحَسَنِ لَهُ وَعُمَرَ قَبْلَهُ، فَقِيلَ صَحَّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَلَّدَ أَبَا الدَّرْدَاءِ الْقَضَاءَ فَاخْتَصَمَ إلَيْهِ رَجُلَانِ فَقَضَى لِأَحَدِهِمَا ثُمَّ لَقِيَ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ عُمَرُ فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ: قَضَى عَلَيَّ فَقَالَ: لَوْ كُنْت مَكَانَهُ قَضَيْت لَك، قَالَ: فَمَا يَمْنَعُك؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَيْسَ هُنَا نَصٌّ وَالرَّأْيُ مُشْتَرَكٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْقَاضِيَ الْمُرْسِلَ يَقْطَعُ بِأَنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْقَاضِي الْمُرْسَلُ إلَيْهِ مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَظَنُّهُ بُطْلَانَهُ مَعْنَاهُ ظَنُّهُ عَدَمَ مُطَابَقَتِهِ لِحُكْمِ اللَّهِ الثَّابِتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَكِنَّ الْقَطْعَ بِأَنَّ الْمُكَلَّفَ بِهِ مِنْهُ تَعَالَى لَيْسَ إصَابَةَ ذَلِكَ بَلْ الْعَمَلُ بِمَظْنُونِهِ، وَإِنْ خَالَفَ حُكْمَهُ تَعَالَى فَقَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِخِلَافِ حُكْمِهِ تَعَالَى فَكَانَ إرْسَالُ الْحَنَفِيِّ إلَيْهِ إرْسَالًا لَأَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ اللَّهَ جَوَّزَ لَهُ أَنْ يَقول هَذَا الْقول وَأَنْ يَعْمَلَ بِهِ مَنْ أَفْتَاهُ بِهِ أَوْ حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ، وَاقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى وَجْهِ النَّفَاذِ دَلِيلُ أَنَّهُ الْمُرَجَّحُ عِنْدَهُ.
هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَعِنْدَهُمَا لَا يَنْفُذُ فِي الْوَجْهَيْنِ) يَعْنِي وَجْهَ النِّسْيَانِ وَالْعَمْدِ (لِأَنَّهُ قَضَى بِمَا هُوَ خَطَأٌ عِنْدَهُ) وَقَدْ تَضَمَّنَ وَجْهُ أَبِي حَنِيفَةَ جَوَابَهُ بِيَسِيرِ تَأَمُّلٍ، وَمَعَ ذَلِكَ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ كَصَاحِبِ الْمُحِيطِ الْفَتْوَى عَلَى قولهِمَا.
وَذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْفَتْوَى.
وَالْوَجْهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ يُفْتَى بِقولهِمَا لِأَنَّ التَّارِكَ لِمَذْهَبِهِ عَمْدًا لَا يَفْعَلُهُ إلَّا لِهَوًى بَاطِلٍ لَا لِقَصْدٍ جَمِيلٍ.
وَأَمَّا النَّاسِي فَلِأَنَّ الْمُقَلِّدَ مَا قَلَّدَهُ إلَّا لِيَحْكُمَ بِمَذْهَبِهِ لَا بِمَذْهَبِ غَيْرِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْقَاضِي الْمُجْتَهِدِ.
فَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَإِنَّمَا وَلَّاهُ لِيَحْكُمَ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ مَثَلًا فَلَا يَمْلِكُ الْمُخَالَفَةَ فَيَكُونُ مَعْزُولًا بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ.
هَذَا، وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي حَمْلِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَذْهَبِهِ.
وَقَالَ: وَجْهُ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ أَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالْمُشَاوَرَةِ وَقَدْ تَقَعُ عَلَى خِلَافِ رَأْيِهِ.
وَجْهُ الْمَنْعِ قوله تعالى: {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الْآيَةَ.
وَاتِّبَاعُهُ غَيْرَ رَأْيِهِ اتِّبَاعُ هَوَى غَيْرِهِ.
وَالْوَجْهُ الصَّحِيحُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَأْمُورٌ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ إجْمَاعًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مُقْتَضَى ظَنِّهِ وَعَمَلِهِ هُنَا لَيْسَ إلَّا قَضَاؤُهُ، بِخِلَافِ الْمُرْسَلِ إلَى مَنْ يَرَى خِلَافَ رَأْيِهِ لِيَحْكُمَ هُوَ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ فِيهِ بِشَيْءٍ.
هَذَا وَمِنْ تَتِمَّةِ الْيَمِينِ الْمُضَافَةِ أَنَّهُ إذَا فَسَخَ الْيَمِينَ الْمُضَافَةَ بَعْدَ التَّزَوُّجِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْعَقْدِ، وَلَوْ وَطِئَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ النِّكَاحِ قَبْلَ الْفَسْخِ ثُمَّ فَسَخَ حُكِيَ عَنْ بُرْهَانِ الْأَئِمَّةِ يَكُونُ الْوَطْءُ حَلَالًا، وَلَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً وَفُسِخَتْ الْيَمِينُ ثُمَّ تَزَوَّجَ بِأُخْرَى هَلْ يَحْتَاجُ إلَى الْفَسْخِ فِي كُلِّ امْرَأَةٍ؟ ذُكِرَ فِيهِ خِلَافٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْتَاجُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا.
وَفِي الْمُنْتَقَى ذَكَرَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَحْتَاجُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَحْتَاجُ.
وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ أَيْضًا.
وَحِيلَةُ أَنْ لَا يَحْتَاجَ فِي كُلِّ امْرَأَةٍ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي عِنْدَ تَزَوُّجِ امْرَأَةٍ بِبُطْلَانِ الْيَمِينِ الْوَاقِعَةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَيْدِ فَسْخِهَا فِي حَقِّ تِلْكَ الْمَرْأَةِ، وَسَنَذْكُرُ فِي أَمْرِ الْفَتْوَى فِيهَا كَلَامًا آخَرَ فِي بَابِ التَّحْكِيمِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَكُلُّ شَيْءٍ قَضَى بِهِ الْقَاضِي فِي الظَّاهِرِ بِتَحْرِيمِهِ فَهُوَ فِي الْبَاطِنِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَكَذَا إذَا قَضَى بِإِحْلَالٍ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى بِسَبَبٍ مُعَيَّنٍ وَهِيَ مَسْأَلَةُ قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ وَقَدْ مَرَّتْ فِي النِّكَاحِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَكُلُّ شَيْءٍ قَضَى بِهِ الْقَاضِي فِي الظَّاهِرِ بِتَحْرِيمِهِ فَهُوَ فِي الْبَاطِنِ كَذَلِكَ) أَيْ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَرَامٌ وَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ الَّذِينَ قَضَى بِهِمْ كَذَبَةً وَالْقَاضِي لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ (وَكَذَا إذَا قَضَى بِإِحْلَالٍ) يَكُونُ حَلَالًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ (وَهَذَا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ مَشْرُوطٌ بِمَا (إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى بِسَبَبٍ مُعَيَّنٍ) لِلْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي النِّكَاحِ الْمُعَنْوَنَةُ بِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ بِغَيْرِ عِلْمِ الْقَاضِي نَافِذٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَاطِنًا خِلَافًا لِصَاحِبَيْهِ وَبَاقِي الْأَئِمَّةِ.
وَمِنْ الْمِثْلِ: ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا وَهِيَ جَاحِدَةٌ وَأَقَامَ بَيِّنَةَ زُورٍ فَقَضَى بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا حَلَّ لِلْمُدَّعِي وَطْؤُهَا وَلَهَا التَّمْكِينُ خِلَافًا لَهُمْ، وَكَذَا إذَا ادَّعَتْ نِكَاحًا عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يَجْحَدُهُ، وَمِنْهَا قَضَى بِبَيْعِ أَمَةٍ بِشَهَادَةِ زُورٍ بِأَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَهَا مِنْهُ أَوْ أَنَّك اشْتَرَيْتهَا حَلَّ لِلْمُنْكِرِ وَطْؤُهَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ الزُّورُ وَقَضَى بِهَا، وَكَذَا فِي الْفُسُوخِ بِالْبَيْعِ وَالْإِقَالَةِ.
وَفِي الْهِبَةِ رِوَايَتَانِ.
وَمِنْهَا ادَّعَتْ أَنَّ الزَّوْجَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَهُوَ يُنْكِرُ فَأَقَامَتْ بَيِّنَةَ زُورٍ فَقَضَى بِالْفُرْقَةِ فَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ عَلِمَ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ، وَلَا يَحِلُّ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ إذَا كَانَ عَالِمًا بِكَذِبِ الشُّهُودِ.
وَمِنْ صُوَرِ التَّحْرِيمِ: صَبِيٌّ وَصَبِيَّةٌ سُبِيَا فَكَبِرَا وَأُعْتِقَا ثُمَّ تَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فَجَاءَ حَرْبِيٌّ مُسْلِمًا وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُمَا وَلَدَاهُ قَضَى الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِالْفُرْقَةِ، فَإِنْ رَجَعَ الشُّهُودُ أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ شُهُودُ زُورٍ لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ وَطْؤُهَا عِنْدَهُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحُرْمَةِ نَفَذَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا.
وَمُحَمَّدٌ فِي هَذَا الْفَرْعِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ كَذِبِ الشُّهُودِ، وَأَجْمَعُوا فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ عَنْ تَعْيِينِ سَبَبِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بَاطِنًا، وَالْوَجْهُ فِي الْأَصْلِ.
وَالْفَرْقُ تَقَدَّمَ قُبَيْلَ بَابِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَكِفَّاءِ، وَمِنْ الْأَوْجُهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَمْرِ الزَّوْجِ نَفَذَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَبِأَمْرِ اللَّهِ أَوْلَى، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِذَلِكَ مِنْهُ جَلَّ وَعَلَا، وَأَمَّا الِاسْتِشْهَادُ بِتَفْرِيقِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ يَنْفُذُ بَاطِنًا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَاذِبًا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ثُمَّ أَنْكَرَ وَحَلَفَ فَقَضَى لَهُ بِهَا لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا، وَأَنَّ الشُّهُودَ لَوْ ظَهَرُوا عَبِيدًا أَوْ كُفَّارًا أَوْ مَحْدُودِينَ لَا يَنْفُذُ بَاطِنًا.
وَفِيهَا رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ وَنَوَى وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ رَجْعِيَّةً فَقَضَى الْقَاضِي بِأَنَّهَا ثَلَاثًا أَخْذًا بِقول عَلِيٍّ نَفَذَ الْقَضَاءُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ كَانَ الزَّوْجُ مُجْتَهِدًا يَتْبَعُ رَأْيَ الْقَاضِي عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَتْبَعُ رَأْيَ الْقَاضِي إنْ كَانَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَقْضِيًّا لَهُ يَتْبَعُ أَشَدَّ الْأَمْرَيْنِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا فَإِنْ اسْتَفْتَى فَمَا أَفْتَاهُ بِهِ الْمُفْتِي صَارَ كَالثَّابِتِ بِالِاجْتِهَادِ عِنْدَهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَفْتِ أَخَذَ بِمَا قُضِيَ بِهِ انْتَهَى.
وَالْوَجْهُ عِنْدِي قول مُحَمَّدٍ لِأَنَّ اتِّصَالَ الْقَضَاءِ بِالِاجْتِهَادِ الْكَائِنِ لِلْقَاضِي يُرَجِّحُهُ عَلَى اجْتِهَادِ الزَّوْجِ وَالْأَخْذُ بِالرَّاجِحِ مُتَعَيِّنٌ، وَكَوْنُهُ لَا يَرَاهُ حَلَالًا إنَّمَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْقُرْبَانِ قَبْلَ الْقَضَاءِ، أَمَّا بَعْدَهُ وَبَعْدَ نَفَاذِهِ بَاطِنًا كَمَا فُرِضَتْ الْمَسْأَلَةُ فَلَا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا يَقْضِي الْقَاضِي عَلَى غَائِبٍ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ لِوُجُودِ الْحُجَّةِ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ فَظَهَرَ الْحَقُّ.
وَلَنَا أَنَّ الْعَمَلَ بِالشَّهَادَةِ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ، وَلَا مُنَازَعَةَ دُونَ الْإِنْكَارِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْكَارَ مِنْ الْخَصْمِ فَيَشْتَبِهُ وَجْهُ الْقَضَاءِ لِأَنَّ أَحْكَامَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ، وَلَوْ أَنْكَرَ ثُمَّ غَابَ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرْطَ قِيَامُ الْإِنْكَارِ وَقْتَ الْقَضَاءِ، وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ قَدْ يَكُونُ نَائِبًا بِإِنَابَتِهِ كَالْوَكِيلِ أَوْ بِإِنَابَةِ الشَّرْعِ كَالْوَصِيِّ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي، وَقَدْ يَكُونُ حُكْمًا بِأَنْ كَانَ مَا يَدَّعِي عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لِمَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْحَاضِرِ وَهَذَا فِي غَيْرِ صُورَةٍ فِي الْكُتُبِ، أَمَّا إذَا كَانَ شَرْطًا لِحَقِّهِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي جَعْلِهِ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ وَقَدْ عُرِفَ تَمَامُهُ فِي الْجَامِعِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَقْضِي الْقَاضِي عَلَى غَائِبٍ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ) إذَا كَانَ غَائِبًا عَنْ الْبَلَدِ أَوْ فِيهَا وَهُوَ مُسْتَتِرٌ قولا وَاحِدًا وَهُوَ قول مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ غَيْرَ مُخْتَفٍ فَلَهُ قولانِ أَصَحُّهُمَا لَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِدُونِ حُضُورِهِ وَهُوَ قول مَالِكٍ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الْمُسْتَتِرِ تَضْيِيعُ الْحُقُوقِ لَوْ لَمْ يَحْكُمْ وَفِي غَيْرِهِ لَا.
احْتَجُّوا بِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَاشْتِرَاطُ حُضُورِ الْخَصْمِ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ بِلَا دَلِيلٍ.
وَلَنَا قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ حِينَ اسْتَقْضَاهُ عَلَى الْيَمَنِ «لَا تَقْضِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ بِشَيْءٍ حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ» وَقَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ وَتَصْحِيحِهِ وَتَحْسِينِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ جَهَالَةَ كَلَامِهِ مَانِعَةٌ مِنْ الْقَضَاءِ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ مَعَ غَيْبَتِهِ وَغَيْبَةِ مَنْ يَقُومُ مَعَهُ، وَلِأَنَّ حُجِّيَّةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِهَا مَوْقُوفٌ عَلَى عَجْزِ الْمُنْكِرِ عَنْ الدَّفْعِ وَالطَّعْنِ فِيهَا، وَالْعَجْزُ عَنْهُ لَا يُعْلَمُ إلَّا مَعَ حُضُورِهِ أَوْ نَائِبِهِ، وَلِأَنَّ شَرْطَ الْعَمَلِ بِهَا الْإِنْكَارُ حَتَّى لَا تُسْمَعَ عَلَى مُقِرٍّ، وَلَا يُقْضَى بِهَا إذَا اعْتَرَضَ الْإِقْرَارُ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَبِغَيْبَتِهِ يَفُوتُ الْعِلْمُ بِوُجُودِ شَرْطِ الْعَمَلِ بِهِ وَهُوَ الْإِنْكَارُ، وَمَا لَمْ يُعْلَمْ بِوُجُودِ الشَّرْطِ لَا يُحْكَمُ بِثُبُوتِ الْمَشْرُوطِ وَهُوَ صِحَّةُ الْحُكْمِ، وَلَا يَكْتَفِي فِي الْحُكْمِ بِثُبُوتِهِ كَوْنُهُ الْأَصْلَ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وُجُودُ أَمْرٍ فَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ وُجُودِهِ، وَلِذَا قُلْنَا جَمِيعًا فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ لَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَمَضَى الْيَوْمُ وَقَالَ السَّيِّدُ دَخَلْت وَقَالَ الْعَبْدُ لَمْ أَدْخُلْ لَا يُحْكَمُ بِوُجُودِ الْعِتْقِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الدُّخُولِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ جُعِلَ شَرْطًا لِحُدُوثِ أَمْرٍ آخَرَ فَلَا يُحْكَمُ بِوُجُودِهِ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْخِلَافُ ثَابِتٌ فِيمَا لَوْ حَضَرَ وَأَنْكَرَ ثُمَّ غَابَ.
قُلْنَا: لِأَنَّ بَقَاءَ الْإِنْكَارِ شَرْطُ الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِجَوَازِ الرُّجُوعِ عَنْهُ إلَّا بِالنَّظَرِ إلَى الْأَصْلِ وَلَا عِبْرَةَ بِهِ، وَإِنَّمَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ إذَا حَضَرَ وَسَكَتَ لِإِنْزَالِ الشَّرْعِ إيَّاهُ مُنْكِرًا لَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْكِرٍ، وَمَا قِيلَ وَقْفُ الْبَيِّنَةِ عَلَى حُضُورِهِ غَيْرُ مُفِيدٍ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ.
وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الدَّعْوَى لَازِمَةٌ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ مَعَ حُضُورِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقِرَّ فَيَبْطُلَ حُكْمُ الْبَيِّنَةِ أَوَّلًا، فَيَطْعَنُ فِي الْبَيِّنَةِ وَيُثْبِتُهُ أَوْ لَا يَطْعَنُ فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَمَعَ غَيْبَتِهِ يَشْتَبِهُ وَجْهُ الْقَضَاءِ فَلَا يَجُوزُ، وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِالْبَيِّنَةِ أَنْ يَنْفُذَ فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ وَبِالْإِقْرَارِ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمُقِرِّ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِيمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ فَاسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ بِالْبَيِّنَةِ يَأْخُذُهَا وَوَلَدَهَا، وَلَوْ أَقَرَّ بِهَا لِرَجُلٍ لَمْ يَأْخُذْ وَلَدَهَا وَلَا يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى بَائِعِهَا وَبِالْبَيِّنَةِ تَرْجِعُ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا لَوْ أَنْكَرَ ثُمَّ غَابَ قول أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ قِيَامُ الْإِنْكَارِ وَقْتَ الْقَضَاءِ، وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ قَالَ: يُحْكَمُ بِهَا لِأَنَّ إنْكَارَهُ سُمِعَ نَصًّا فَوَجَدَ شَرْطَ حُجِّيَّتِهَا كَمَا لَوْ أَقَرَّ ثُمَّ غَابَ يَقْضِي بِالْإِقْرَارِ.
وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُقْضَى بِالْبَيِّنَةِ وَيُقْضَى بِالْإِقْرَارِ، وَهُوَ قول أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ فِي الْبَيِّنَةِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقَّ الطَّعْنِ فِي الْبَيِّنَةِ وَالْقَضَاءُ عَلَيْهِ حَالَ غَيْبَتِهِ يُبْطِلُ هَذَا الْحَقَّ، أَمَّا لَيْسَ لَهُ حَقُّ الطَّعْنِ فِي إقْرَارِهِ فَالْقَضَاءُ عَلَيْهِ حَالَ غَيْبَتِهِ ثَمَّ لَا يُبْطِلُ حَقًّا لَهُ.
وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقول أَوَّلًا: لَا يُقْضَى بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ عَلَى الْغَائِبِ جَمِيعًا، ثُمَّ رَجَعَ لَمَّا اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ، وَقَالَ: يُقْضَى فِيهِمَا جَمِيعًا وَاسْتَحْسَنَهُ حِفْظًا لِأَمْوَالِ النَّاسِ، فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ أَوْ حُضُورِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ أَحَدُ ثَلَاثٍ: نَائِبٌ بِإِنَابَتِهِ كَوَكِيلِهِ، أَوْ بِإِنَابَةِ الشَّرْعِ كَالْوَصِيِّ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي.
وَقَدْ يَكُونُ حُكْمًا: يَعْنِي شَخْصًا يَقُومُ مَقَامَهُ حُكْمًا، أَيْ يَكُونُ قِيَامُهُ عَنْهُ حُكْمًا لِأَمْرٍ لَازِمٍ لَهُ، وَاقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهَا نَفْيًا لِلْمُسَخَّرِ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي فَإِنَّ فِيهِ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ وَهُوَ الَّذِي يُنَصِّبُهُ الْقَاضِي لِيَسْمَعَ عَلَيْهِ الدَّعْوَى، وَكَذَا لَوْ أَحْضَرَ الْمُدَّعِي رَجُلًا غَيْرَ خَصْمِهِ لِيَسْمَعَ الْقَاضِي الْخُصُومَةَ وَالْقَاضِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ لَا يَسْمَعُ الْخُصُومَةَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْمُسَخَّرِ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ نَصْبُ الْقَاضِي الْوَكِيلَ عَنْ خَصْمٍ اخْتَفَى فِي بَيْتِهِ وَلَا يَحْضُرُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ، وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ يَبْعَثَ أُمَنَاءَهُ إلَى بَابِ دَارِهِ فَيُنَادِيَ عَلَى بَابِ دَارِهِ وَيَقول اُحْضُرْ مَجْلِسَ الْحُكْمِ وَإِلَّا يُحْكَمُ عَلَيْك، أَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَلَا.
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ.
رَجُلٌ غَابَ وَجَاءَ رَجُلٌ فَادَّعَى عَلَى رَجُلٍ ذَكَرَ أَنَّهُ غَرِيمُ الْغَائِبِ وَالْغَائِبُ وَكَّلَهُ بِطَلَبِ كُلِّ حَقٍّ لَهُ عَلَى غُرَمَائِهِ بِالْكُوفَةِ وَبِالْخُصُومَةِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُنْكِرُ وَكَالَتَهُ فَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى وَكَالَتِهِ قَضَى عَلَيْهِ بِالْوَكَالَةِ: يَعْنِي عَلَى الْغَائِبِ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُسَخَّرِ، فَإِنَّهُ قَالَ ذَكَرَ أَنَّهُ غَرِيمُ الْغَائِبِ وَلَمْ يَقُلْ هُوَ غَرِيمُ الْغَائِبِ.
قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْقَاضِي أَنَّهُ مُسَخَّرٌ.
وَالْوَجْهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ كَمَا ذَكَرَ ظَهِيرُ الدِّينِ فِي فَتَاوَاهُ أَنَّ فِي نَفَاذِ قَضَاءِ الْقَاضِي عَلَى الْغَائِبِ رِوَايَتَيْنِ، ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَنْفُذُ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمَشَايِخِ قَالُوا: لَا يَنْفُذُ، وَفِي مَفْقُودِ خُوَاهَرْ زَادَهُ، لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ لِلْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ كَمَا لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ عَلَى الْغَائِبِ، إلَّا أَنَّ مَعَ هَذَا لَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا وَأَنْفَذَ الْخُصُومَةَ بَيْنَهُمْ فَهُوَ جَائِزٌ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى انْتَهَى.
وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنْ يُقَالَ إنَّ نَفَاذَ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ مَوْقُوفٌ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ، لِأَنَّ نَفْسَ الْقَضَاءِ هُوَ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ فَهُوَ كَقَضَاءِ الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ وَنَحْوِهِ، وَحَيْثُ قَضَى عَلَى غَائِبٍ فَلَا يَكُونُ عَنْ إقْرَارٍ عَلَيْهِ.
وَمِنْ فُرُوعِهِ مَسْأَلَةٌ عَجِيبَةٌ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: عَيْنٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ مِلْكُهُ اشْتَرَاهُ مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ وَصَدَّقَهُ ذُو الْيَدِ فَالْقَاضِي لَا يَأْمُرُ ذَا الْيَدِ أَنْ يُسَلِّمَهَا إلَى الْمُدَّعِي حَتَّى لَا يَكُونَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ بِالشِّرَاءِ بِإِقْرَارِهِ، وَهِيَ عَجِيبَةٌ لِأَنَّهُ اعْتَرَفَ بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالتَّسْلِيمِ.
قَالَ: وَأَحَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إلَى بَابِ الْيَمِينِ مِنْ أَدَبِ الْقَاضِي وَلَمْ أَجِدْهَا ثَمَّةَ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَمَا إذَا كَانَ مَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لَا مَحَالَةَ، لِمَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْحَاضِرِ بِحَيْثُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ (وَهُوَ فِي غَيْرِ صُورَةٍ فِي الْكُتُبِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ) مَا يَدَّعِيهِ الْغَائِبُ (شَرْطًا لِحَقِّهِ) لَا سَبَبًا لَا مَحَالَةَ، أَوْ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا وَقَدْ لَا يَكُونُ (فَإِنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي جَعْلِ الْحَاضِرِ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَقَدْ عَرَفَ تَمَامَهُ فِي الْجَامِعِ).
مِثَالُ السَّبَبِ الْمَلْزُومِ لَا مَحَالَةَ فِي سِتِّ مَسَائِلَ: ثَلَاثٌ فِيمَا يَكُونُ الْمَقْضِيُّ شَيْئَيْنِ، وَثَلَاثٌ فِيمَا يَكُونُ وَاحِدًا.
أَمَّا ثَلَاثُ الْوَاحِدِ: إحْدَاهَا ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا مِلْكُهُ وَأَنْكَرَ ذُو الْيَدِ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَارُهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ وَهُوَ يَمْلِكُهَا فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهَا فِي حَقِّ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ، لِأَنَّ الشِّرَاءَ سَبَبٌ لِثُبُوتِ مَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْحَاضِرِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مِنْ الْمَالِكِ سَبَبٌ لَا مَحَالَةَ لِمِلْكِهِ.
وَالثَّانِيَةُ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ كَفَلَ عَنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ بِمَا يَذُوبُ لَهُ عَلَيْهِ فَأَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ وَأَنْكَرَ الذَّوْبَ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ذَابَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ أَلْفٌ يُقْضَى بِهَا عَلَى الْكَفِيلِ وَالْغَائِبِ، حَتَّى لَوْ حَضَرَ وَأَنْكَرَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِهِ.
الثَّالِثَةُ ادَّعَى شُفْعَةً فِي دَارٍ فِي يَدِ إنْسَانٍ فَقَالَ ذُو الْيَدِ الدَّارُ دَارِي مَا اشْتَرَيْتهَا مِنْ أَحَدٍ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ ذَا الْيَدِ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ بِأَلْفٍ وَهُوَ يَمْلِكُهَا وَأَنَا شَفِيعُهَا يَقْضِي بِالشِّرَاءِ فِي حَقِّ ذِي الْيَدِ وَالْغَائِبِ.
وَمِثَالُ ثَلَاثِ الشَّيْئَيْنِ: إحْدَاهَا قَذَفَ مُحْصَنًا فَادَّعَى عَلَيْهِ الْحَدَّ فَقَالَ الْقَاذِفُ أَنَا عَبْدٌ وَعَلَيَّ حَدُّ الْعَبِيدِ وَقَالَ الْمُدَّعِي الْمَقْذُوفُ بَلْ أَعْتَقَك مَوْلَاك فَعَلَيْك حَدُّ الْأَحْرَارِ وَالْمَوْلَى غَائِبٌ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ وَيُقْضَى بِالْعِتْقِ فِي حَقِّ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ جَمِيعًا، حَتَّى لَوْ حَضَرَ وَأَنْكَرَ الْعِتْقَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِهِ فَالْعِتْقُ سَبَبٌ لِكَمَالِ الْحَدِّ وَهُوَ الْمُدَّعِي عَلَى الْحَاضِرِ فَهُمَا شَيْئَانِ.
الثَّانِيَةُ شَاهِدَانِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِمَالٍ فَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ هُمَا عَبْدَانِ لِفُلَانٍ الْغَائِبِ فَأَقَامَ الْمَشْهُودُ لَهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ مَوْلَاهُمَا أَعْتَقَهُمَا قَبْلَ هَذَا وَهُوَ يَمْلِكُهُمَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ وَيَثْبُتُ الْعِتْقُ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَالْمَوْلَى الْغَائِبِ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ وِلَايَةِ الشَّهَادَةِ.
الثَّالِثَةُ: رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا وَلَهُ وَلِيَّانِ غَابَ أَحَدُهُمَا وَادَّعَى الْحَاضِرُ عَلَى الْقَاتِلِ أَنَّ الْغَائِبَ عَفَا عَنْ نَصِيبِهِ وَانْقَلَبَ نَصِيبِي مَالًا وَأَنْكَرَ الْقَاتِلُ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ تُقْبَلُ وَيُقْضَى بِهَا عَلَى الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ جَمِيعًا.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُنْتَقَضٌ بِمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ غَائِبٍ وَحَاضِرٍ فَادَّعَى الْعَبْدُ عَلَى الْحَاضِرِ مِنْهُمَا أَنَّ الْغَائِبَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَهُوَ مُوسِرٌ وَادَّعَى قَصْرَ يَدِ الْحَاضِرِ عَنْ نَفْسِهِ لِصَيْرُورَتِهِ مُكَاتَبًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْحَاضِرِ بِذَلِكَ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ أَصْلًا مَعَ أَنَّ إعْتَاقَ الْغَائِبِ نَصِيبَهُ سَبَبٌ لِقَصْرِ يَدِ الْحَاضِرِ عَنْهُ لَا مَحَالَةَ.
أُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ الْقَبُولِ عِنْدَهُ هُنَا لَا لِعَدَمِ الْخَصْمِ عَنْ الْغَائِبِ بَلْ لِجَهَالَةِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ بِالْكِتَابَةِ لِأَنَّ السَّاكِتَ إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُعْتَقِ يَصِيرُ الْعَبْدُ مُكَاتَبًا مِنْ جِهَةِ الْمُعْتَقِ، وَإِنْ اخْتَارَ الِاسْتِسْعَاءَ يَصِيرُ مُكَاتَبًا مِنْ جِهَةِ السَّاكِتِ فَكَانَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالْكِتَابَةِ مَجْهُولًا فَلَمْ يُقْبَلْ.
وَأَمَّا مَا لَا يَكُونُ فِيهِ مَا يَدَّعِي بِهِ عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لَا مَحَالَةَ لِمَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْحَاضِرِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ، فَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا شَيْئَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ وَاحِدًا، وَبَيَانُهُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا قَالَ لِعَبْدِ رَجُلٍ مَوْلَاك وَكَّلَنِي بِحَمْلِك إلَيْهِ فَأَقَامَ الْعَبْدُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ تُقْبَلُ فِي حَقِّ قَصْرِ يَدِ الْحَاضِرِ وَلَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْعِتْقِ عَلَى الْغَائِبِ، حَتَّى لَوْ حَضَرَ الْغَائِبُ وَأَنْكَرَ الْعِتْقَ يَحْتَاجُ الْعَبْدُ إلَى إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ بِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَةِ غَائِبٍ وَكَّلَنِي زَوْجُك بِحَمْلِك إلَيْهِ فَأَقَامَتْ بَيِّنَةً أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا يَقْضِي بِقَصْرِ يَدِ الْوَكِيلِ عَنْهَا دُونَ الطَّلَاقِ، فَلَوْ حَضَرَ وَأَنْكَرَ الطَّلَاقَ يَحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهَا أَوْ بَيِّنَةٍ أُخْرَى فَالْمُدَّعِي الْعِتْقَ وَقَصْرَ الْيَدِ وَالطَّلَاقَ وَقَصْرَ الْيَدِ، لِأَنَّ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ قَدْ يَتَحَقَّقُ وَلَا يُوجِبُ انْعِزَالَ الْوَكِيلِ بِأَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ وَكَالَةٌ، وَقَدْ يَتَحَقَّقُ مُوجِبًا لِلِانْعِزَالِ بِأَنْ وُجِدَ بَعْدَ الْوَكَالَةِ، فَلَيْسَ انْعِزَالُ الْوَكِيلِ حُكْمًا أَصْلِيًّا لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ سَبَبًا لِحَقِّ الْحَاضِرِ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَكُونُ الْحَاضِرُ فِيهِ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا قَبِلْنَا الْبَيِّنَةَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّ الْحَاضِرِ فِي قَصْرِ يَدِهِ وَانْعِزَالِهِ عَنْ الْوَكَالَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ انْعِزَالِ الْوَكِيلِ تَحَقُّقُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَلَا مِنْ ضَرُورَةِ تَحَقُّقِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ انْعِزَالُ الْوَكِيلِ فَلَا يُقْضَى بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ.
وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ وَهُوَ دَعْوَى شَيْئَيْنِ، إلَّا أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْغَائِبِ لَيْسَ سَبَبًا لِمَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْحَاضِرِ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْبَقَاءِ فَبَيَانُهُ فِي مَسَائِلَ: إحْدَاهَا قَالُوا فِيمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَادَّعَى الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ كَانَ زَوَّجَهَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي وَيُرِيدُ أَنْ يَرُدَّهَا بِهَذَا الْعَيْبِ وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ فَأَقَامَ الْمُشْتَرِي عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَإِنَّهُ لَا يُقْضَى بِهَا لَا فِي حَقِّ الْحَاضِرِ وَلَا فِي حَقِّ الْغَائِبِ، لِأَنَّ الْمُدَّعَى شَيْئَانِ: الرَّدُّ بِالْعَيْبِ عَلَى الْحَاضِرِ، وَالنِّكَاحُ عَلَى الْغَائِبِ.
وَالنِّكَاحُ الْمُدَّعَى بِهِ عَلَى الْغَائِبِ لَيْسَ سَبَبًا لِمَا يَدَّعِي عَلَى الْحَاضِرِ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْبَقَاءِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْبَقَاءِ بِأَنْ شَهِدُوا عَلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ لِلْحَالِ لَا تُقْبَلُ أَيْضًا لِأَنَّ الْبَقَاءَ تَبَعٌ لِلِابْتِدَاءِ.
وَالثَّانِيَةُ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا إذَا أَرَادَ الْبَائِعُ الِاسْتِرْدَادَ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَاعَ مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ لَا تُقْبَلُ لِإِبْطَالِ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ لَا فِي حَقِّ الْحَاضِرِ وَلَا فِي حَقِّ الْغَائِبِ، لِأَنَّ نَفْسَ الْبَيْعِ لَيْسَ سَبَبًا لِبُطْلَانِ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ لِجَوَازِ أَنَّهُ بَاعَ ثُمَّ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا فَيَعُودُ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ نَفْسِ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ الْبَقَاءِ لِأَنَّ الْبَقَاءَ تَبَعٌ لِلِابْتِدَاءِ كَمَا ذَكَرْنَا.
الثَّالِثَةُ رَجُلٌ فِي يَدِهِ دَارٌ بِيعَتْ بِجَنْبِهَا دَارٌ فَأَرَادَ ذُو الْيَدِ أَنْ يَأْخُذَ الْمُشْتَرَاةَ بِالشُّفْعَةِ فَقَالَ الْمُشْتَرِي لَهُ: الدَّارُ الَّتِي بِيَدِك لَيْسَتْ لَك وَإِنَّمَا هِيَ لِفُلَانٍ فَأَقَامَ الشَّفِيعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَارُهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ لَا يُقْضَى بِالشِّرَاءِ لَا فِي حَقِّ الْحَاضِرِ وَلَا فِي حَقِّ الْغَائِبِ، لِأَنَّ الْمُدَّعَى شَيْئَانِ، وَالْمُدَّعَى عَلَى الْغَائِبِ مِنْ شِرَاءِ الدَّارِ لَيْسَ سَبَبًا لِثُبُوتِ حَقِّهِ فِي الشُّفْعَةِ مَا لَمْ يَثْبُتْ الْبَقَاءُ، لِأَنَّهُ لَوْ فَسَخَ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَأَزَالَهَا عَنْ مِلْكِهِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ لَا يَكُونُ لَهُ شُفْعَةٌ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الشُّفْعَةُ بِاعْتِبَارِ الْبَقَاءِ وَلَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ؛ وَلَوْ أَقَامَ عَلَى الْبَقَاءِ لَمْ تُقْبَلْ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا مَا يَكُونُ شَرْطًا فَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْتَصِبُ الْحَاضِر خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ فِيمَا يَدَّعِيهِ.
وَصُورَتُهُ: قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ طَلَّقَ فُلَانٌ امْرَأَتَهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَادَّعَتْ أَنَّ فُلَانًا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ لَا يُقْضَى بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَا لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ.
وَقَدْ أَفْتَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ كَفَخْرِ الْإِسْلَامِ والأوزجندي فِيهِ بِانْتِصَابِ الْحَاضِرِ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ، وَيُقْضَى بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلَ فُلَانٌ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَبَرْهَنَتْ عَلَى دُخُولِ فُلَانٍ حَيْثُ يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ فُلَانٌ غَائِبًا.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ بِشَيْءٍ إذْ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقٍّ لَهُ فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّ مَا كَانَ شَرْطًا لِثُبُوتِ الْحَقِّ لِلْحَاضِرِ مِنْ غَيْرِ إبْطَالِ حَقِّ الْغَائِبِ قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ فِيهِ إذْ لَيْسَ فِيهِ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ، وَمَا تَضَمَّنَ إبْطَالًا عَلَيْهِ لَا يُقْبَلُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَيُقْرِضُ الْقَاضِي أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَيَكْتُبُ ذِكْرَ الْحَقِّ) لِأَنَّ فِي الْإِقْرَاضِ مَصْلَحَتَهُمْ لِبَقَاءِ الْأَمْوَالِ مَحْفُوظَةً مَضْمُونَةً، وَالْقَاضِي يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ وَالْكِتَابَةِ لِيَحْفَظَهُ (وَإِنْ أَقْرَضَ الْوَصِيُّ ضَمِنَ) لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ، وَالْأَبُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيِّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ لِعَجْزِهِ عَنْ الِاسْتِخْرَاجِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيُقْرِضُ الْقَاضِي أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَيَكْتُبُ ذِكْرَ الْحَقِّ) وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي عُرْفِنَا بِالصَّكِّ وَالْحَقُّ هُنَا هُوَ الْإِقْرَاضُ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْإِقْرَاضِ مَصْلَحَتَهُمْ؛ لِأَنَّ بَقَاءَهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ السَّارِقُ وَالْغَاصِبُ الْمُكَابِرُ، وَفِي الْقَرْضِ بَقَاؤُهَا مَحْفُوظَةً عَنْ ذَلِكَ مَضْمُونَةً (وَالْقَاضِي يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ) فَكَانَ النَّظَرُ فِي الْإِقْرَاضِ بِخِلَافِ الْوَصِيِّ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ، إذْ رُبَّمَا لَا يُوَافِقُهُ الشُّهُودُ أَوْ لَا يَجِدُهُمْ، وَلَوْ وَجَدَهُمْ فَلَيْسَ كُلُّ بَيِّنَةٍ تَعْدِلُ وَلَا كُلُّ قَاضٍ يَعْدِلُ، وَفِي الْجُثُوِّ بَيْنَ يَدِي الْقُضَاةِ ذُلٌّ وَصَغَارٌ فَكَانَ إضْرَارًا بِالصِّغَارِ عَلَى الِاعْتِبَارِ (وَالْأَبُ كَالْوَصِيِّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ) لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ.
وَوَجْهُ الْأُخْرَى أَنَّهُ أَعَمُّ وِلَايَةً مِنْ الْوَصِيِّ لِأَنَّهَا فِي الْمَالِ وَالنَّفْسِ كَوِلَايَةِ الْقَاضِي، وَيَزِيدُ عَلَيْهَا بِزِيَادَةِ الشَّفَقَةِ الْمَانِعُ مِنْ تَرْكِ النَّظَرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُقْرِضُ مِمَّنْ يَأْمَنُ جُحُودَهُ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: لَوْ أَخَذَهُ الْأَبُ قَرْضًا لِنَفْسِهِ يَجُوزُ وَإِنْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي جَوَازِ الْقَرْضِ وَعَدَمِهِ لَيْسَ لِقُرْبِ الْقَرَابَةِ وَلَا لِزِيَادَةِ الْوِلَايَةِ بَلْ لِتَمَامِ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِرْجَاعِ بَعْدَ وُجُودِ أَصْلِ الْوِلَايَةِ وَلَا قُدْرَةَ لِلْأَبِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِدْ الشُّهُودَ لِمَوْتٍ أَوْ غَيْبَةٍ قَضَى بِعِلْمِهِ وَاسْتَخْرَجَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ قُدْرَةَ هَذَا إنَّمَا تُفِيدُ مَعَ وُجُودِ الْمُلَاءَةِ.
أَمَّا لَوْ أَعْسَرَ الْمُسْتَقْرِضُ صَارَ الْقَاضِي كَغَيْرِهِ فِي عَدَمِ الْقُدْرَةِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ الْخَصَّافُ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَفَقَّدَ أَحْوَالَ الَّذِينَ أَقْرَضَهُمْ الْمَالَ حَتَّى لَوْ اخْتَلَّ حَالُ أَحَدٍ مِنْهُمْ يَأْخُذُ مِنْهُمْ الْمَالَ قَبْلَ أَنْ يُعْسِرَ فَلَا يَقْدِرُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُسْتَقْرِضُ مُعْسِرًا فِي الِابْتِدَاءِ لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي إقْرَاضُهُ، وَقَدْ انْتَظَمَ مَا ذَكَرْنَا حُكْمَ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ وَلْنُفَصِّلْهَا فَعِنْدَنَا وَفِي قول لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ لَا يَجُوزُ، وَعَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا رِوَايَةٌ بِالْجَوَازِ كَقولنَا لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ «خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» فَهَذَا قَضَاءٌ بِعِلْمِهِ، وَشَرْطُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَعْلَمَ فِي حَالِ قَضَائِهِ فِي الْمِصْرِ الَّذِي هُوَ قَاضِيهِ بِحَقٍّ غَيْرِ حَدٍّ خَالِصٍ لِلَّهِ مِنْ قَرْضٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ تَطْلِيقِ رَجُلٍ امْرَأَتَهُ أَوْ قَتْلِ عَمْدٍ أَوْ حَدِّ قَذْفٍ.
وَأَمَّا إذَا عَلِمَ قَبْلَ الْقَضَاءِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ ثُمَّ وُلِّيَ فَرُفِعَتْ إلَيْهِ تِلْكَ الْحَادِثَةُ أَوْ عَلِمَهَا فِي حَالِ قَضَائِهِ فِي غَيْرِ مِصْرِهِ ثُمَّ دَخَلَهُ فَرُفِعَتْ إلَيْهِ لَا يَقْضِي عِنْدَهُ، وَقَالَ: يُقْضَى.
وَفِي التَّجْرِيدِ جَعَلَ قول مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَوْ عَلِمَ فِي رُسْتَاقِ مِصْرِهِ عِنْدَهُمَا يَقْضِي.
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ وَسَوَاءٌ كَانَ مُقَلِّدًا لِلرُّسْتَاقِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْقَرْيَةِ وَالْمَفَازَةِ لَا يَنْفُذُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَنَصَّ أَصْحَابُ الْأَمَالِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِي السَّوَادِ، وَهَكَذَا فِي النَّوَادِرِ عَنْ مُحَمَّدٍ.
وَلَوْ عَلِمَ بِحَادِثَةٍ وَهُوَ قَاضٍ فِي مِصْرِهِ ثُمَّ عُزِلَ ثُمَّ أُعِيدَ إلَى الْقَضَاءِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَقْضِي، وَعِنْدَهُمَا يَقْضِي.
وَأَمَّا فِي حَدِّ الشُّرْبِ وَالزِّنَا فَلَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بِعِلْمِهِ اتِّفَاقًا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

.(بَابُ التَّحْكِيمِ):

(وَإِذَا حَكَّمَ رَجُلَانِ رَجُلًا فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا وَرَضِيَا بِحُكْمِهِ جَازَ) لِأَنَّ لَهُمَا وِلَايَةً عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَصَحَّ تَحْكِيمُهُمَا وَيَنْفُذُ حُكْمُهُ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا إذَا كَانَ الْمُحَكَّمُ بِصِفَةِ الْحَاكِمِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي فِيمَا بَيْنَهُمَا فَيُشْتَرَطُ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ، وَلَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ وَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَالْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ اعْتِبَارًا بِأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَالْفَاسِقُ إذَا حَكَمَ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي الْمُوَلَّى (وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَكِّمَيْنِ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِمَا) لِأَنَّهُ مُقَلَّدٌ مِنْ جِهَتِهِمَا فَلَا يَحْكُمُ إلَّا بِرِضَاهُمَا جَمِيعًا (وَإِذَا حَكَمَ لَزِمَهُمَا) لِصُدُورِ حُكْمِهِ عَنْ وِلَايَةٍ عَلَيْهِمَا (وَإِذَا رَفَعَ حُكْمَهُ إلَى الْقَاضِي فَوَافَقَ مَذْهَبَهُ أَمْضَاهُ) لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي نَقْضِهِ ثُمَّ فِي إبْرَامِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ (وَإِنْ خَالَفَهُ أَبْطَلَهُ) لِأَنَّ حُكْمَهُ لَا يَلْزَمُهُ لِعَدَمِ التَّحْكِيمِ مِنْهُ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ التَّحْكِيمِ):
هَذَا أَيْضًا مِنْ فُرُوعِ الْقَضَاءِ، وَالْمُحَكَّمُ أَحَطُّ رُتْبَةً مِنْ الْقَاضِي، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي فِيمَا لَا يَقْضِي الْمُحَكَّمُ فَأَخَّرَهُ عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ التَّحْكِيمِ بِالشَّرْطِ وَإِضَافَتِهِ، بِخِلَافِ الْقَضَاءِ لِأَنَّ حُكْمَهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِصْلَاحِ وَالْوَاقِعُ مِنْهُ كَالصُّلْحِ، أَوْ هُوَ صُلْحٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَكُونُ مِثْلَهُ بِالشَّكِّ.
وَالتَّحْكِيمُ جَائِزٌ بِالْكِتَابِ قوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ} الْآيَةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا قَالَ أَبُو شُرَيْحٍ «يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ قَوْمِي إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ فَأَتَوْنِي فَحَكَمْت بَيْنَهُمْ فَرَضِيَ عَنِّي الْفَرِيقَانِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَا أَحْسَنَ هَذَا» رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأُجْمِعَ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمِلَ بِحُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ لَمَّا اتَّفَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى الرِّضَا بِحُكْمِهِ فِيهِمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مُنَازَعَةٌ فِي نَخْلٍ فَحَكَّمَا بَيْنَهُمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَأَتَيَاهُ فَخَرَجَ زَيْدٌ وَقَالَ لِعُمَرَ: هَلَّا بَعَثْت إلَيَّ فَآتِيك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ، فَدَخَلَا بَيْتَهُ فَأَلْقَى لَعُمَرَ وِسَادَةً، فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا أَوَّلُ جَوْرِك فَكَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ زَيْدٌ لِأُبَيٍّ: لَوْ أَعْفَيْت أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: يَمِينٌ لَزِمَتْنِي، فَقَالَ أُبَيٌّ: نُعْفِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَنُصَدِّقُهُ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَظُنُّ بِأَحَدٍ مِنْهُمَا فِي هَذِهِ الْخُصُومَةِ التَّلْبِيسَ، وَإِنَّمَا هِيَ لِاشْتِبَاهِ الْحَادِثَةِ عَلَيْهِمَا فَتَقَدَّمَا إلَى الْحَكَمِ لِلتَّبْيِينِ لَا لِلتَّلْبِيسِ.
وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ التَّحْكِيمِ وَأَنَّ زَيْدًا كَانَ مَعْرُوفًا بِالْفِقْهِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَخْتَلِفُ إلَيْهِ وَيَأْخُذُ بِرِكَابِهِ عِنْدَ رُكُوبِهِ، وَقَالَ هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَصْنَعَ بِفُقَهَائِنَا، فَقَبَّلَ زَيْدٌ يَدَهُ وَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَصْنَعَ بِأَشْرَافِنَا.
وَفِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَكُونُ قَاضِيًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ مَنْ احْتَاجَ إلَى الْعِلْمِ يَأْتِي إلَى الْعَالِمِ فِي بَيْتِهِ وَلَا يَبْعَثُ إلَيْهِ لِيَأْتِيَهُ وَإِنْ كَانَ أَوْجَهَ النَّاسِ.
وَأَمَّا إلْقَاءُ زَيْدٍ الْوِسَادَةَ فَاجْتِهَادٌ مِنْ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ» وَبَسَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِدَاءً لَعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَأَنَّ الْخَلِيفَةَ لَيْسَ كَغَيْرِهِ، وَاجْتِهَادُ عُمَرَ عَلَى تَخْصِيصِ هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ عُمُومِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْحَلِفِ صَادِقًا، وَامْتِنَاعُ عُثْمَانَ عَنْ الْيَمِينِ حِينَ لَزِمَتْهُ كَانَ لِأَمْرٍ آخَرَ، وَأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا وَيَسْقُطَ بِإِسْقَاطِهِ.
قولهُ: (وَإِذَا حَكَّمَ رَجُلَانِ رَجُلًا) أَوْ امْرَأَةً (فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا وَرَضِيَا بِحُكْمِهِ) إلَى أَنْ حَكَمَ (جَازَ لِأَنَّ لَهُمَا وِلَايَةً عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَصَحَّ تَحْكِيمُهُمَا) وَسَنَذْكُرُ لِهَذَا تَخْصِيصَاتٍ: أَوَّلُهَا قولهُ (وَهَذَا إذَا كَانَ الْمُحَكَّمُ بِصِفَةِ الْحَاكِمِ) بِأَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ (فَلَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ) إلَّا أَنْ يُحَكِّمَهُ ذِمِّيَّانِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ (وَ) كَذَلِكَ (الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ وَالْفَاسِقُ) لَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ (لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ. وَالْفَاسِقُ إذَا حَكَمَ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي الْمَوْلَى) الْفَاسِقِ يَنْفُذُ حُكْمُهُ.
وَقولهُ (وَيَنْفُذُ حُكْمُهُ عَلَيْهِمَا) عَطْفٌ عَلَى جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ: أَعْنِي قولهُ جَازَ، وَهَذِهِ شُرُوطُ التَّحْكِيمِ فَقَدَّمْنَاهَا عَلَى الْجَوَابِ، وَلَوْ قَدَّمَ الْمَجْرُورَ فَقَالَ وَعَلَيْهِمَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ كَانَ مُفِيدًا لِلْحَصْرِ فَيُفِيدُ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ عَلَى غَيْرِهِمَا، فَلَوْ حَكَّمَاهُ فِي عَيْبٍ بِالْمَبِيعِ فَقَضَى بِرَدِّهِ لَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ إلَّا أَنْ يَتَرَاضَى الْبَائِعُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالْمُشْتَرِي عَلَى تَحْكِيمِهِ فَحِينَئِذٍ يَرُدُّهُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَلَوْ اخْتَصَمَ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ مَعَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ فِي الْعَيْبِ فَحَكَمَ بِرَدِّهِ عَلَى الْوَكِيلِ لَمْ يَلْزَمْ الْمُوَكِّلَ إذَا كَانَ الْعَيْبُ يَحْدُثُ مِثْلُهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً إلَّا أَنْ يَرْضَى الْمُوَكِّلُ بِتَحْكِيمِهِ مَعَهُمَا.
وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ وَلَمْ يَدْخُلْ الْمُوَكِّلُ مَعَهُمْ فِي التَّحْكِيمِ فَفِي لُزُومِهِ لِلْمُوَكِّلِ رِوَايَتَانِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ حُكْمُهُ وَلَمْ يَتَعَدَّ لِأَنَّهُ كَالْمُصَالِحِ.
ثُمَّ تُشْتَرَطُ هَذِهِ وَقْتَ التَّحْكِيمِ وَوَقْتَ الْقَضَاءِ جَمِيعًا حَتَّى لَوْ حَكَّمَا عَبْدًا فَعَتَقَ أَوْ صَبِيًّا أَوْ ذِمِّيًّا فَبَلَغَ وَأَسْلَمَ ثُمَّ حَكَمَ لَا يَنْفُذُ كَمَا فِي الْمُقَلَّدِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مُسْلِمًا وَقْتَ التَّحْكِيمِ ثُمَّ ارْتَدَّ لَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ ثُمَّ الْإِضَافَاتُ فِي قولهِ وَلَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ الْعَبْدِ إلَخْ مِنْ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى الْمَفْعُولِ، وَلَوْ اُعْتُبِرَتْ إلَى الْفَاعِلِ جَازَ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ.
وَفِي الْمُغْنِي: يَجُوزُ تَحْكِيمُ الْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ كَالْحُرِّ، وَتَحْكِيمُ الذِّمِّيِّ ذِمِّيًّا لِيَحْكُمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذِمِّيٍّ يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا.
قولهُ: (وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحَكِّمِينَ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ مُقَلَّدٌ مِنْ جِهَتِهِمَا) إذْ هُمَا الْمُوَلِّيَانِ لَهُ فَلَهُمَا عَزْلُهُ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ كَمَا أَنَّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَعْزِلَ الْقَاضِيَ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ وَلَوْ حَكَمَ قَبْلَ عَزْلِهِ نَفَذَ وَعَزْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُهُ فَكَذَا هَذَا (وَإِذَا نَفَذَ حُكْمُهُ لَزِمَهُمَا لِصُدُورِ حُكْمِهِ عَنْ وِلَايَةٍ كَامِلَةٍ عَلَيْهِمَا) فَقَطْ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ دُونَ الصُّلْحِ وَبَعْدَمَا تَمَّ الصُّلْحُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ أَنْ يَرْجِعَ.
قولهُ: (وَإِذَا رُفِعَ حُكْمُهُ إلَى الْقَاضِي فَوَافَقَ مَذْهَبَهُ أَمْضَاهُ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي نَقْضِهِ ثُمَّ إبْرَامِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ) بِعَيْنِهِ (وَإِنْ خَالَفَهُ أَبْطَلَهُ) وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: هُوَ كَالْمُقَلَّدِ فَلَا يُبْطِلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَوْرًا بَيِّنًا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَنَحْنُ فَرَّقْنَا بِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَاضِي عَامَّةٌ عَلَى النَّاسِ لِعُمُومِ وِلَايَةِ الْخَلِيفَةِ الْمُقَلِّدِ لَهُ، بِخِلَافِ الْمُوَلِّيَيْنِ لَهُ إنَّمَا لَهُمَا وِلَايَةٌ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَقَطْ لَا عَلَى الْقَاضِي فَلَا يَلْزَمُ حُكْمُهُ الْقَاضِيَ لِأَنَّهُ لَمْ يُحَكِّمْهُ، وَلِأَنَّ تَقْلِيدَهُمَا إيَّاهُ بِمَنْزِلَةِ اصْطِلَاحِهِمَا عَلَى شَيْءٍ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ كَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يُبْطِلَهُ أَوْ يُنْفِذَهُ فَكَذَا هَذَا، وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قولهِ وَإِنْ خَالَفَهُ أَبْطَلَهُ لَيْسَ مَا يُعْفِيهِ ظَاهِرُهُ مِنْ لُزُومِ إبْطَالِ الْقَاضِي إيَّاهُ بَلْ جَوَازُ أَنْ يُبْطِلَهُ وَأَنْ يُنْفِذَهُ.
وَعِبَارَةُ الْمَبْسُوطِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْوَجْهَ فَلَا يَجِبُ تَنْفِيذُ حُكْمِهِ عَلَى الْقَاضِي.

متن الهداية:
(وَلَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى دَمِهِمَا وَلِهَذَا لَا يَمْلِكَانِ الْإِبَاحَةَ فَلَا يُسْتَبَاحُ بِرِضَاهُمَا قَالُوا: وَتَخْصِيصُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ كَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ صَحِيحٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يُفْتَى بِهِ، وَيُقَالُ يُحْتَاجُ إلَى حُكْمِ الْمُوَلَّى دَفْعًا لِتَجَاسُرِ الْعَوَامّ وَإِنْ حَكَّمَاهُ فِي دَمِ خَطَإٍ فَقَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ إذْ لَا تَحْكِيمَ مِنْ جِهَتِهِمْ.
وَلَوْ حَكَمَ عَلَى الْقَاتِلِ بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ رَدَّهُ الْقَاضِي وَيَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِرَأْيِهِ وَمُخَالِفٌ لِلنَّصِّ أَيْضًا إلَّا إذَا ثَبَتَ الْقَتْلُ بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُهُ (وَيَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ وَيَقْضِيَ بِالنُّكُولِ وَكَذَا بِالْإِقْرَارِ) لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُوَافِقٌ لِلشَّرْعِ، وَلَوْ أَخْبَرَ بِإِقْرَارِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ أَوْ بِعَدَالَةِ الشُّهُودِ وَهُمَا عَلَى تَحْكِيمِهِمَا يُقْبَلُ قولهُ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ قَائِمَةٌ وَلَوْ أَخْبَرَ بِالْحُكْمِ لَا يُقْبَلُ قولهُ لِانْقِضَاءِ الْوِلَايَةِ كَقول الْمُوَلَّى بَعْدَ الْعَزْلِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْقِصَاصِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْخَصَّافِ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْخَصَّافِ: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالُوا هَذَا فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْإِمَامَ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ لِاسْتِيفَائِهَا وَلَيْسَ لَهُمَا وِلَايَةٌ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ.
وَأَمَّا الْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ فَيَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِيهِمَا، وَلَكِنَّ صَاحِبَ الْكِتَابِ يُرِيدُ الْخَصَّافَ أَطْلَقَ وَقَالَ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَكَمِ بِمَنْزِلَةِ الصُّلْحِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ بِالصُّلْحِ، وَلِأَنَّهُمَا يَنْدَرِئَانِ بِالشُّبُهَاتِ، وَفِي حُكْمِهِ شُبْهَةٌ لِأَنَّهُ حُكْمٌ فِي حَقِّهِمَا لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، وَأَيُّ شُبْهَةٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (قَالُوا وَتَخْصِيصُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّحْكِيمِ فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ وَهُوَ صَحِيحٌ) وَفِي الْخُلَاصَةِ: قَضَاءُ الْحُكْمِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنِّكَاحِ وَالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ وَالدُّيُونِ وَالْبُيُوعِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْقِصَاصِ وَأَرْشِ الْجِنَايَاتِ وَقَطْعِ يَدٍ عَمْدًا بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ جَائِزٌ إذَا وَافَقَ رَأْيَ الْقَاضِي.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ فِي الْقِصَاصِ.
وَنَقَلَ النَّاصِحِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي الْقِصَاصِ: يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِأَنَّ وَلِيَّ الْقِصَاصِ لَوْ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْفَعَ إلَى السُّلْطَانِ جَازَ، فَكَذَا إذَا حَكَّمَ فِيهِ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ بَنِي آدَمَ.
وَتَوْجِيهُ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُمَا لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى دَمِهِمَا وَلِذَا لَا يَمْلِكَانِ الْإِبَاحَةَ: يَعْنِي لَوْ قَالَ لِشَخْصٍ اُقْتُلْنِي لَا يَصِحُّ أَمْرُهُ وَلَا يَحِلُّ لِلْآخَرِ قَتْلُهُ لَا يَدْفَعُهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّحْكِيمِ، وَالْآخَرُ: أَعْنِي الطَّالِبَ تَبَعٌ فَكَوْنُ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الَّذِي تَحْكِيمُهُ لَيْسَ الْأَقْوَى يَمْلِكُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ لَا يَقْتَضِي صِحَّةَ التَّحْكِيمِ فِيهِ بَلْ حَتَّى يَرْضَى الْآخَرُ، وَالْآخَرُ لَا يَمْلِكُ مَا حَكَمَ فِيهِ فَلَا يَصِحُّ التَّحْكِيمُ فِيهِ.
وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: حُكْمُ الْمُحَكَّمِ فِي الطَّلَاقِ وَالْمُضَافِ يَنْفُذُ لَكِنْ لَا يُفْتِي بِهِ.
وَفِيهَا: رُوِيَ عَنْ أَصْحَابِنَا مَا هُوَ أَوْسَعُ مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ صَاحِبَ الْحَادِثَةِ لَوْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا عَدْلًا فَأَفْتَاهُ بِبُطْلَانِ الْيَمِينِ الْمُضَافَةِ وَسِعَهُ اتِّبَاعُ فَتْوَاهُ وَإِمْسَاكُ الْمَرْأَةِ الْمَحْلُوفِ بِطَلَاقِهَا.
وَرُوِيَ عَنْهُمْ مَا هُوَ أَوْسَعُ مِنْ هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ إذَا اسْتَفْتَى أَوَّلًا فَقِيهًا فَأَفْتَاهُ بِبُطْلَانِ الْيَمِينِ وَسِعَهُ إمْسَاكُ الْمَرْأَةِ فَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْرَى وَكَانَ حَلَفَ بِطَلَاقِ كُلِّ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَاسْتَفْتَى فَقِيهًا آخَرَ فَأَفْتَاهُ بِصِحَّةِ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ يُفَارِقُ الْأُخْرَى وَيُمْسِكُ الْأُولَى عَمَلًا بِفَتْوَاهُمَا.
وَفِي الذَّخِيرَةِ: فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ وَلِيٍّ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَبَعَثَ الْقَاضِي إلَى شَافِعِيٍّ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِبُطْلَانِ ذَلِكَ النِّكَاحِ وَبِبُطْلَانِ الثَّلَاثِ يَجُوزُ، وَكَذَا لَوْ حَكَّمَا بِذَلِكَ حَكَمًا يَجُوزُ، وَلَا يُفْتَى بِهِ لِمَا مَرَّ: يَعْنِي مَا قَدَّمَهُ مِنْ خَشْيَةِ تَجَاسُرِ الْعَوَامّ: يَعْنِي عَلَى هَدْمِ الْمَذْهَبِ.
قَالَ: وَكَذَا مَنْ غَابَ عَنْ امْرَأَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً وَلَمْ يُخَلِّفْ لَهَا نَفَقَةً فَبَعَثَ إلَى شَافِعِيٍّ لِيَحْكُمَ بِفَسْخِ النِّكَاحِ لِعَجْزِ النَّفَقَةِ يَجُوزُ.
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَوْ حَكَّمَاهُ فِي دَمِ خَطَإٍ فَقَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ إذَا لَمْ يُحَكِّمُوهُ، وَكَذَا لَوْ حَكَمَ عَلَى الْقَاتِلِ بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ) فَإِنَّ الْقَاضِيَ (يَرُدُّهُ وَيَقْضِي) بِمَا هُوَ الْحَقُّ وَهُوَ كَوْنُهُ (عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِرَأْيِهِ وَلِلنَّصِّ) وَهُوَ حَدِيثُ حَمْلِ بْنِ مَالِكٍ (إلَّا إذَا ثَبَتَ الْقَتْلُ) وَهُوَ قَتْلُ الْخَطَإِ (بِإِقْرَارِهِ) فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بِالدِّيَةِ حِينَئِذٍ عَلَى الْقَاتِلِ، لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْقَتْلَ الثَّابِتَ بِالْإِقْرَارِ كَمَا لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ وَالصُّلْحَ عَلَى الدِّيَةِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَا يَنْفُذُ فِي حَقِّهِمْ إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ فَاقْتَصَرَ عَلَى نَفْسِهِ فَوَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ أُرُوشُ الْجِرَاحَاتِ إنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَا تَعْقِلُهَا الْعَاقِلَةُ، بَلْ تَجِبُ فِي مَالِ الْجَانِي بِأَنْ كَانَتْ دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَثَبَتَ ذَلِكَ بِالْإِقْرَارِ وَالنُّكُولِ أَوْ كَانَ عَمْدًا، وَإِنْ بَلَغَ خَمْسَمِائَةٍ فَقَضَى الْحَكَمُ عَلَى الْجَانِي جَازَ لِأَنَّهُ لَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ، وَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بِهَا أَصْلًا لِأَنَّهُ إنْ قَضَى عَلَى الْجَانِي خَالَفَ الشَّرْعَ، وَعَلَى الْعَاقِلَةِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُحَكِّمُوهُ.
قولهُ: (وَلَوْ أَخْبَرَ) يَعْنِي الْمُحَكَّمُ لَوْ قَالَ: لِأَحَدِهِمَا أَقْرَرْت عِنْدِي أَوْ قَامَتْ عِنْدِي بَيِّنَةٌ عَلَيْك بِهَذَا فَعَدَلُوا عِنْدِي وَقَدْ أَلْزَمْتُك ذَلِكَ وَحَكَمْت بِهَذَا فَأَنْكَرَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ أَقَرَّ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قولهِ وَمَضَى الْقَضَاءُ عَلَيْهِ مَا دَامَ الْمَجْلِسُ بَاقِيًا لِأَنَّ الْحَكَمَ مَا دَامَ تَحْكِيمُهُمَا قَائِمًا كَالْقَاضِي الْمُقَلِّدِ، وَلَوْ قَالَ الْمُقَلِّدُ ذَلِكَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ، فَكَذَا الْحَكَمُ إلَّا أَنْ يُخْرِجَهُ الْمُخَاطَبُ عَنْ الْحُكْمِ وَيَعْزِلَهُ قَبْلَ أَنْ يَقول حَكَمْت عَلَيْك ثُمَّ قَالَ الْمُحَكَّمُ ذَلِكَ أَوْ قَالَهُ بَعْدَ أَنْ قَامَ مِنْ الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ بِالْقِيَامِ مِنْ الْمَجْلِسِ يَنْعَزِلُ كَمَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الْحُكْمِ فَصَارَ كَالْقَاضِي، إذَا قَالَ بَعْدَ الْعَزْلِ قَضَيْت بِكَذَا لَا يُصَدَّقُ كَذَا هَذَا.

متن الهداية:
(وَحُكْمُ الْحَاكِمِ لِأَبَوَيْهِ وَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ بَاطِلٌ وَالْمُوَلَّى وَالْمُحَكَّمُ فِيهِ سَوَاءٌ) وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِهَؤُلَاءِ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ الْقَضَاءُ لَهُمْ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فَكَذَا الْقَضَاءُ، وَلَوْ حَكَّمَا رَجُلَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا لِأَنَّهُ أَمْرٌ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَحُكْمُ الْحَاكِمِ) سَوَاءٌ كَانَ قَاضِيًا أَوْ مُحَكَّمًا (لِأَبَوَيْهِ وَوَلَدِهِ وَزَوْجَتِهِ) وَكُلُّ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ (بَاطِلٌ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ) بِخِلَافِ مَا إذَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ يَجُوزُ لِانْتِفَائِهَا.
قولهُ: (وَلَوْ حَكَّمَا رَجُلَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا لِأَنَّ الْحُكْمَ أَمْرٌ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ) وَإِنَّمَا رَضِيَ الْخَصْمَانِ بِرَأْيِهِمَا فَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ لَا يُصَدَّقُ الْحَكَمَانِ فِي إخْبَارِهِمَا عَنْ الْحُكْمِ إذَا قَامَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ انْعِزَالِهِمَا فَالْتَحَقَا بِسَائِرِ الرَّعَايَا فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى فِعْلٍ بَاشَرَاهُ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُمَا، وَلَوْ شَهِدَ عِنْدَ الْحَكَمَيْنِ شَاهِدَانِ ثُمَّ مَاتَ الشَّاهِدَانِ أَوْ غَابَا فَسَأَلَ الْمُدَّعِي الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَشْهَدَا لَهُ عَلَى شَهَادَتِهِمَا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُمَا مَا حَمَلَاهُمَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَا عَلَى شَهَادَتِهِمَا.
وَإِذَا عَرَفَ أَنَّ أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ فَلَوْ حَكَّمَا عَبْدًا وَحُرًّا لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ حَكَّمَ مُسْلِمٌ وَمُرْتَدٌّ رَجُلًا فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَتَلَ الْمُرْتَدَّ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ عَلَيْهِمَا وَلَوْ أَمَرَ الْإِمَامُ رَجُلًا بِأَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ جَازَ وَيَصِيرُ كَالْقَاضِي، وَلَوْ أَمَرَ الْقَاضِي رَجُلًا لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ بَعْدَ الْحُكْمِ أَوْ يَتَرَاضَى بِهِ الرَّجُلَانِ بَعْدَ الْحُكْمِ، وَلَوْ حَكَّمَا رَجُلًا فَأَخْرَجَهُ الْقَاضِي مِنْ الْحُكُومَةِ فَحَكَمَ بَعْدَهُ بَيْنَهُمَا فَأَجَازَاهُ جَازَ، وَلَيْسَ لِلْحَكَمِ أَنْ يُفَوِّضَ إلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ فَوَّضَ وَحَكَمَ الثَّانِي بِلَا رِضَاهُمْ فَأَجَازَ الْقَاضِي لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُجِيزَاهُ بَعْدَ الْحُكْمِ، وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَالْوَكِيلِ الْأَوَّلِ إذَا أَجَازَ فِعْلَ الْوَكِيلِ الثَّانِي، وَلَوْ حَكَّمَا وَاحِدًا فَحَكَمَ لِأَحَدِهِمَا ثُمَّ حَكَّمَا آخَرَ يَنْفُذُ حُكْمُ الْأَوَّلِ إنْ كَانَ جَائِزًا عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ جَوْرًا أَبْطَلَهُ، وَكِتَابُ الْحَكَمِ إلَى الْقَاضِي وَقَلْبُهُ لَا يَجُوزُ، فَإِنْ كَتَبَ إلَيْهِ قَاضٍ فَرَضِيَ بِهِ الْخَصْمَانِ حَكَمَ حِينَئِذٍ بِمُقْتَضَى الْكِتَابِ.